مرزوق بن تنباك

فنون الدعاء وشجونه

الثلاثاء - 20 أبريل 2021

Tue - 20 Apr 2021

اتسمت الثقافة العربية الإسلامية بمساحة واسعة للدعاء، أي الابتهال إلى الله بما ينفع بعض الناس أو بما يضر بعضهم، وكانت هناك مجالات كثيرة يطرقها الداعون والمبتهلون ويطلبون من الله أن يجيب دعاءهم ويحقق رغائبهم، وقد تعددت أساليب الدعاء وتوسعت أغراضه ومضامينه حتى إن الصلاة نفسها سميت دعاء، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تحض على الدعاء وتأمر به وأنه جزء من العبادة بشروط معلومة عند الفقهاء، والله يعد بأنه يستجيب الدعاء لمن يتوجه إليه صادقا (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) وغير القرآن جاء في السنن كثير من الأحاديث التي تأمر بالدعاء وتحث عليه ومنها (الدعاء مخ العبادة)، وأقوال أخرى في المأثورات والسنن.

لكن الجديد هي أساليب الدعاء وفنونه التي ابتدعها المعاصرون ونسمعها في كل مناسبة دينية وغير دينية، لا سيما في دعاء القنوت وهو قديم وحادث، أذكر قبل سنوات أثناء أزمة الخليج أنني صليت مع إمام قنت بصلاة العصر واستمر بالدعاء والاستمطار لغضب الله على الأعداء الذين فصل في أسمائهم وأديانهم ومذاهبهم وحدد مواقعهم وأشخاصهم ونص على العقوبة التي يريد من الله أن يوقعها بهم وحددها أيضا وبعض من خصهم بالدعاء قد يكونون في الصف الأول وراء ظهره، ثم بكى وأبكى حتى نسي بعض المصلين أنه في الركعة الأخيرة من الصلاة مما اضطرهم أن يعيدوا الصلاة المكتوبة -وكنت منهم-؛ لأن ذلك القنوت الطويل أنسانا ما كنا فيه قبله وما صرنا إليه بعده، وكانت لغته وأساليبه وتفننه هو ما شدني وزادني لمتابعة تلك الخطب والنظر في مضامين الدعاء وأغراضه من جانب أدبي، وما صار إليه المعاصرون من موضوعات ومطولات طرقوها لم يعرفها السابقون فيما وصل إلينا من الدعاء المأثور أو لم نسمع بها عنهم.

وكانت مكبرات الصوت وجلبتها قد زادت من أهمية أن يكون الإمام مبدعا ومتفننا فيما يبتهل به وما يخترع من الجمل البلاغية والسجع المؤثر.

وليالي رمضان وموسم القيام فيها كانت مناسبة عظيمة حين يتبارى الخطباء وأئمة المساجد لجلب أكثر عدد من المصلين وترقيق قلوبهم، ومما زاد من وهج الدعاء والقنوت نقل صلاة التراويح على الهواء مباشرة من الحرمين الشريفين إلى العالم كله خلال شهر رمضان المبارك؛ حيث يرى ملايين الناس ويستمعون إلى الصلاة والقنوت في مشارق الأرض ومغاربها ويتابعونها، بل إن بعض المسلمين يأتمون بالإمام الذي يقيم الصلاة في أحد الحرمين رغم ما يفصلهم عنهما من مئات وآلاف الأميال، لكن الشوق يتجاوز بهم ويصلهم بالإمام ويغريهم بالمتابعة، وقد قامت وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد هذا العام بتحديد زمن للتراويح والقيام مما سيخفف من الإطالة التي كان يتبارى بها أئمة المساجد في مثل هذه المناسبة فيما سلف من السنين.

ومناسبة الحديث هنا هو عن الأساليب البلاغية التي تفنن بها الخطباء وأضفوا عليها مسحة أدبية واجتماعية تصلح أن تكون موضوعا لطلاب الدراسات العليا في الجامعات، وخصوصا طلاب الدراسات النظرية الذين يبحثون عن موضوعات معاصرة لدراستهم، وقلما يجدون موضوعا أدبيا لم يقتل درسا ويطبخ حتى يحترق على رأي النحويين، والسؤال لماذا لا يتوجه الباحثون عن موضوعات جديدة إلى مضامين هذا الدعاء وموضوعاته وبواعثه وصياغة أساليبه ودلالاته والجديد فيه والقديم منه، ففيها مادة طيبة ومجال واسع للتفسير والتأويل الأسلوبي والبلاغي، والدراسات التي تناولته قليلة أو معدومة، ومن جانب آخر هو أي الدعاء موضوع خصب للدارسين في أقسام العلوم الاجتماعية بصفته ظاهرة اجتماعية عبرت بها الجماعة عن الرغبة التي تعجز وسائل الناس عن تحقيقها، فيسعون لقوة خارجية قادرة على فعل ما يعجزون عنه.

Mtenback@