أحمد الهلالي

الذكريات هي الحياة!

الثلاثاء - 09 مارس 2021

Tue - 09 Mar 2021

حين تتأمل عمرك لن تجده جسدا شاخصا ملموسا، حتى وإن رأيته في بعض منجزاتك أو أهدافك التي حققتها، فحقيقة العمر ليست في عدد الأيام والسنين، وليست في عدد المنجزات أو الأهداف، وليست في لحظات الحزن والفرح، بل الحياة مجموعة من الذكريات المتراكمة، ولو تجرد منها الإنسان لأصبح بلا قيمة، ولن يشعر بذاته ولا بالآخرين ولا بالحياة.

لحظات نومنا، أو لحظات الغيبوبة المؤقتة التي يمر بها البعض، يمر فيها الوقت سريعا جدا، فرغم أن الذاكرة العميقة تتنفس في أحلامنا، إلا أننا بمجرد أن نستسلم للنوم الطبيعي المستقر، نصحو بعد ساعات ولا نعلم بكل ما حدث في الكون، فنبحث عن الأخبار لنستكمل سجل ذاكرتنا عن ذلك الوقت الذي غبنا فيه جزئيا عن مسرح الحياة، ويستمر سياق الذكريات متكاملا متماسكا، لكن ذلك السجل يتعرض أحيانا للمسح الكلي بفعل بعض الإصابات أو الخرف أو بعض الأمراض كالزهايمر ـ أجاركم الله ومن تحبون ـ ما يجعل حياة الإنسان بلا قيمة، وبلا معنى، فهو مجرد جسد يعمل بالأكسجين والغذاء.

ذكرياتنا هي الكنز الثمين الذي يحقق وجودنا، ويمنحنا مشاعرنا وإحساسنا بالحياة وبالزمان، وهي الدافع القوي إلى صناعة مستقبلنا ورسم أهدافنا، وبغض النظر عن جمال أو قبح تلك الذكريات أو سعادتها أو حزنها، فإنها تظل منجما يصنع واقعنا، أما صناعتنا نحن لذكرياتنا فتلعب فيها النسبية دورها، فنحن نستطيع أن نصنع بعضها بطموحاتنا وأفعالنا ومنجزاتنا، لكن بعضها تصنعه الحياة والأحداث والسياقات، فلا يخلو سجل ذكريات كل الناس من المشاعر المتباينة، الفرح والحزن، السعادة والشقاء، الراحة والألم، والنجاح والإخفاق، وكل ما يمكننا تخيله من مشاعر، لكن السعيد من يوجه ذاكرته إلى المشاعر الإيجابية، ويحاول تجنب المشاعر السلبية وطمرها في أعماق الذاكرة، كيلا تدفع صاحبها إلى تصرفات محبطة أو منفرة أو خطرة.

ومن جهة أخرى، فإن التاريخ ذاكرة عميقة وشاسعة، يحفظها التدوين، مزدحم بالحوادث والأحداث المتنوعة التي فرضتها ظروف وسياقات مختلفة، وقراء التاريخ ثلاثة أنواع، قراء إيجابيون، لا ينقلون إلا ما يفيد واقعهم وقضاياهم، وقراء سلبيون يحيون أحداثا مؤذية للواقع ويعمدون إلى تشويه شخصيات ونشر أحقاد طواها الزمن، وقراء لا تعدو قراءاتهم التأمل وأخذ العبر من الحوادث والأحداث إيجابيها وسلبيها، ولم يخطئ من سمى البحث السلبي في التاريخ (نبشا)، يشبه نبش المقابر؛ لأنه يحيي رميم الحوادث، وما أجمل وأعقل أن نتجنب مثل هذا، أو نمارسه ببصيرة ووعي فيما نكتبه أو نتحدث به، سواء عن تاريخ قديم أم تواريخ معاصرة، فالإيجابية مكسب.