الفردانية كارثة العصر
السبت - 27 فبراير 2021
Sat - 27 Feb 2021
مع ولوج العالم الغربي عصر الصناعة والتجارة الحديثة العابرة للبحار، وظهور قوى اجتماعية جديدة تستمد سلطتها من حركة رأس المال النقدي وليس من سطوة الإقطاع الزراعي الذي ازداد ضمورا على الصعيد الاقتصادي، وتقلص دوره في وتيرة العمل والتأثير السياسي يوما بعد يوم، لينتهي بشكل متسارع مع انتهاء الثلث الأول من القرن الـ20 تقريبا، معلنا ابتداء حقبة جديدة في كل شيء، وفي مختلف المفاهيم والتصورات الاقتصادية، والسياسية، والعسكرية، والمجتمعية، ولعل التأثير المجتمعي هو ما يعنيني اليوم ككاتب مراقب بالدرجة الرئيسة.
في هذا السياق، أشير إلى أن ما ترتب على نهاية الحرب العالمية الثانية من نتائج كارثية على الصعيدين السكاني والمجتمعي، وما صاحب ذلك من نمو اقتصادي في وتيرة الصناعات الحديثة التي ساهمت في تحول المجتمع الغربي من نمطه الزراعي التكافلي وشكل أسرته الممتدة، إلى النمط العمالي الصناعي الفردي بأسرته النووية الضيقة، قد كان له الدور الفاعل في ارتفاع مختلف الأصوات الداعمة في الإطار الفلسفي إلى تعزيز حرية الفرد وحقوقه الخاصة، وصارت الفردانية أحد المبادئ الأخلاقية الداعية لأن تكون أهداف الفرد ورغباته قيمة مستقلة يجب تحقيقها حتى لو اقتضى الأمر القفز على اعتبارات الدولة والمجتمع، بل ودون أخذ مصالح المجتمع بعين الاعتبار، وبالتالي فلا تؤمن الفردية بقيمة التضحية من أجل الآخر أيا كان ذلك الآخر، بل إنها تعزز من سلطة الأنا السيكولوجية، بعيدا حتى عن الوعي بقيمة الأنا العقلانية، التي تجعل صاحبها يفكر بمصلحته بحكمة على اعتباره واحدا من مجموع، وفردا في سفينة تبحر في أعماق البحار.
في تلك الأثناء لم يفكر الإنسان الغربي في مختلف الأضرار النفسية، وما يمكن أن يصاحبها من اختلالات مجتمعية، جراء تداعي مفاهيم المجتمع التكافلي التراحمي، والانزلاق صوب التعمق في مفاهيم وقيم الفردانية بمجتمعها التعاقدي، ولا سيما النساء اللاتي كان يتم اضطهادهن والتعامل معهن بدونية كبرى بسبب مفاهيم توراتية تسربت إلى العهد الجديد تنص على أن النساء نجس، وأنهن أصل الخطيئة، وأنهن ناقصات في كل شيء، وكذلك الشباب الذكور الذين وجدوا أنفسهم في مستنقع موحل من المطالب الترفيهية الاستهلاكية التي لا تنتهي، والتي جرى تصويرها من قبل الدعاية التسويقية التجارية بمفاهيمها الرأسمالية بأنها مهمة لكمال حياتهم، ناهيك عن بقية أفراد المجتمع الذين آثروا الانتقال للمدن، فانخرطوا في دهاليز ومتطلبات المدينة، وبات كل واحد منهم مشغولا بنفسه وبزوجه إذا اقتضى الأمر.
وهكذا سارت الحياة بهم بعيدا تقطعهم أشلاء، وتفتت وحدتهم، ليبحثوا عن الدفء في تربية الكلاب الوفية بطبعها، مستعيضين بها عن مفقود تاه منهم دون وعي، وانفصل عنهم بمجرد بلوغه السن القانونية، ثم إذا أفاقوا وجدوا أنفسهم في دوامة من التروس الحادة المانعة إياهم عن التفكير، بل والمقطعة لأوصالهم شذرا، فلا يمكنهم إصلاح ما هم فيه من فقد وتيه سوى بالتداعي مرة أخرى للاجتماع في نظام مؤسسي يمكن أن يوفر لهم بعض الأمان الذي افتقدوه، ويعيد إليهم شيئا من التوازن الذي أضاعوه.
وواقع الحال وبالنظر إلى تلك الأفكار التي باتت شائعة بين أبنائنا اليوم، تدعو إلى تعزيز مفاهيم السلوك الفردي وصفات الأنا السيكولوجية باسم تنمية الذات وتطوير القدرات، فإني أخشى أن نكون سائرين في مسارهم، وواصلين إلى نتيجتهم، على أني لا أعرف ما إذا كان بمقدور أجيالنا مستقبلا أن تنشئ مؤسسات مجتمعية تلم شعثهم، وتجبر خاطرهم. حتى وإن كان بمقدورهم ذلك، ألا يجب أن نتأمل ونعتبر ونتوقف ونستفيد من تجارب الآخرين سلبية كانت أم إيجابية؟
إن ما يدعوني إلى التحذير من بلوغ هذا المآل راجع إلى ما صرت أراه واقعا في مجتمعنا المعاش من جفوة على الصعيدين المعنوي والمادي المحسوس بين الوالدين وأبنائهما الشباب ذكورا وإناثا، أولئك الذين سرقتهم مفاتن الحياة الزائفة، ومتطلباتها الاستهلاكية الزائلة، عن الاهتمام بوالديهم ورعايتهم بما يجب، فصاروا وفقا لما ترسخ في وعيهم الزائف مجحفين في تعاملهم مع أقرب الناس لهم، مبدين بقصد أو بغيره حالة كبيرة من الجفاء، وأكبر الجفاء أن يشعر الوالدان بالتهميش من قبل فلذات أكبادهم، ولعمري فتلك كارثة الكوارث، ووباء العصر المهلك للأرض ومن عليها.
ختاما، كأني بأبي البقاء الرندي بيننا، ينشد مطلع قصيدته النونية الشهيرة، ولكن بمعنى آخر ودلالة أخرى قائلا:
لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول
من سره زمن ساءته أزمان
وهذه الدار لا تبقي على أحد
ولا يدوم على حال لها شان
zash113@
في هذا السياق، أشير إلى أن ما ترتب على نهاية الحرب العالمية الثانية من نتائج كارثية على الصعيدين السكاني والمجتمعي، وما صاحب ذلك من نمو اقتصادي في وتيرة الصناعات الحديثة التي ساهمت في تحول المجتمع الغربي من نمطه الزراعي التكافلي وشكل أسرته الممتدة، إلى النمط العمالي الصناعي الفردي بأسرته النووية الضيقة، قد كان له الدور الفاعل في ارتفاع مختلف الأصوات الداعمة في الإطار الفلسفي إلى تعزيز حرية الفرد وحقوقه الخاصة، وصارت الفردانية أحد المبادئ الأخلاقية الداعية لأن تكون أهداف الفرد ورغباته قيمة مستقلة يجب تحقيقها حتى لو اقتضى الأمر القفز على اعتبارات الدولة والمجتمع، بل ودون أخذ مصالح المجتمع بعين الاعتبار، وبالتالي فلا تؤمن الفردية بقيمة التضحية من أجل الآخر أيا كان ذلك الآخر، بل إنها تعزز من سلطة الأنا السيكولوجية، بعيدا حتى عن الوعي بقيمة الأنا العقلانية، التي تجعل صاحبها يفكر بمصلحته بحكمة على اعتباره واحدا من مجموع، وفردا في سفينة تبحر في أعماق البحار.
في تلك الأثناء لم يفكر الإنسان الغربي في مختلف الأضرار النفسية، وما يمكن أن يصاحبها من اختلالات مجتمعية، جراء تداعي مفاهيم المجتمع التكافلي التراحمي، والانزلاق صوب التعمق في مفاهيم وقيم الفردانية بمجتمعها التعاقدي، ولا سيما النساء اللاتي كان يتم اضطهادهن والتعامل معهن بدونية كبرى بسبب مفاهيم توراتية تسربت إلى العهد الجديد تنص على أن النساء نجس، وأنهن أصل الخطيئة، وأنهن ناقصات في كل شيء، وكذلك الشباب الذكور الذين وجدوا أنفسهم في مستنقع موحل من المطالب الترفيهية الاستهلاكية التي لا تنتهي، والتي جرى تصويرها من قبل الدعاية التسويقية التجارية بمفاهيمها الرأسمالية بأنها مهمة لكمال حياتهم، ناهيك عن بقية أفراد المجتمع الذين آثروا الانتقال للمدن، فانخرطوا في دهاليز ومتطلبات المدينة، وبات كل واحد منهم مشغولا بنفسه وبزوجه إذا اقتضى الأمر.
وهكذا سارت الحياة بهم بعيدا تقطعهم أشلاء، وتفتت وحدتهم، ليبحثوا عن الدفء في تربية الكلاب الوفية بطبعها، مستعيضين بها عن مفقود تاه منهم دون وعي، وانفصل عنهم بمجرد بلوغه السن القانونية، ثم إذا أفاقوا وجدوا أنفسهم في دوامة من التروس الحادة المانعة إياهم عن التفكير، بل والمقطعة لأوصالهم شذرا، فلا يمكنهم إصلاح ما هم فيه من فقد وتيه سوى بالتداعي مرة أخرى للاجتماع في نظام مؤسسي يمكن أن يوفر لهم بعض الأمان الذي افتقدوه، ويعيد إليهم شيئا من التوازن الذي أضاعوه.
وواقع الحال وبالنظر إلى تلك الأفكار التي باتت شائعة بين أبنائنا اليوم، تدعو إلى تعزيز مفاهيم السلوك الفردي وصفات الأنا السيكولوجية باسم تنمية الذات وتطوير القدرات، فإني أخشى أن نكون سائرين في مسارهم، وواصلين إلى نتيجتهم، على أني لا أعرف ما إذا كان بمقدور أجيالنا مستقبلا أن تنشئ مؤسسات مجتمعية تلم شعثهم، وتجبر خاطرهم. حتى وإن كان بمقدورهم ذلك، ألا يجب أن نتأمل ونعتبر ونتوقف ونستفيد من تجارب الآخرين سلبية كانت أم إيجابية؟
إن ما يدعوني إلى التحذير من بلوغ هذا المآل راجع إلى ما صرت أراه واقعا في مجتمعنا المعاش من جفوة على الصعيدين المعنوي والمادي المحسوس بين الوالدين وأبنائهما الشباب ذكورا وإناثا، أولئك الذين سرقتهم مفاتن الحياة الزائفة، ومتطلباتها الاستهلاكية الزائلة، عن الاهتمام بوالديهم ورعايتهم بما يجب، فصاروا وفقا لما ترسخ في وعيهم الزائف مجحفين في تعاملهم مع أقرب الناس لهم، مبدين بقصد أو بغيره حالة كبيرة من الجفاء، وأكبر الجفاء أن يشعر الوالدان بالتهميش من قبل فلذات أكبادهم، ولعمري فتلك كارثة الكوارث، ووباء العصر المهلك للأرض ومن عليها.
ختاما، كأني بأبي البقاء الرندي بيننا، ينشد مطلع قصيدته النونية الشهيرة، ولكن بمعنى آخر ودلالة أخرى قائلا:
لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول
من سره زمن ساءته أزمان
وهذه الدار لا تبقي على أحد
ولا يدوم على حال لها شان
zash113@