مرزوق بن تنباك

يحتال الناس بقدر حاجاتهم

الثلاثاء - 23 فبراير 2021

Tue - 23 Feb 2021

من عام وأكثر تواجه الكرة الأرضية وسكانها جائحة الكورونا التي قطعت التواصل وحاصرت المدن ومن فيها وجعلت الناس في سجن كبير شملهم كافة، فصار لا يتصل بعضهم ببعض ولا يلتقون إلا على خوف ووجل، وكل من تقابله أو تتحدث إليه حتى من أخص الناس وأقربهم أصبح مصدر خطر، تغيرت العادات والتحيات والمصافحات، وحلت الأكواع بدل الأكف واستوى الرجال باللثام مع النساء وكل صار في مشقة وعناء، لا يختلف فيه كبير عن صغير، ولا غني عن فقير، تقطعت السبل بين الأقطار.

مرض لم يكن مثله ولا يعرف في التاريخ شبيها له من حيث انتشاره وسرعة سفره وانتقاله، والأهم أنه لم يكن مرضا جسديا فحسب ولكنه مرض حمل معه أمراضا كثيرة كان بعضها أشد فتكا بالناس من المرض نفسه، وأخطرها وأقساها مرض البطالة الذي حصد ثلث الوظائف العامة والخاصة وجعل العاملين فيها يبقون بلا عمل وبلا قوت، عطل حراكهم وصاروا يقضون أيامهم في ملل الانتظار بدل العمل والكد لتحصيل ما يعيشون به ويسد رمقهم. هذا المرض كان قاسيا على الفئات الضعيفة في المجتمع حين توقفت التنمية الاقتصادية وتعطلت مصادرها في كل الدول وتعطلت المشاريع واحتار الناس بين سلامتهم وصحتهم وبين ممارسة حياتهم الطبيعية والبحث عن مصادر رزقهم، وكانت خيارات صعبة ومؤلمة هزت ثوابت المجتمعات وغيرت طباعهم وألحقت الضرر بالعلاقات العامة والخاصة، وهزت التكوين الطبيعي الذي عرفه وألفه البشر من قبل، ولأن المثل يقول قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق فقد ضعفت قبضة الدول على زمام الاحتراز، فسمحت بعودة بعض النشاط والحركة للشركات التي عادت للعمل، وكان عليها اعتماد اليد العاملة ولم يلبث أن زاد الوباء انتشارا وزادت الحاجة إلى الاحتراز والعودة إلى المنع وتحمل أعبائه مهما كانت مرة وقاسية.

وغير مرض الاقتصاد مرض انقطاع السبل وتوقف التواصل الاجتماعي، فلم يستطع الناس تحمل كل ذلك، فبحثوا في الحيل والاختراعات، وصدق القول المشهور: الحاجة أم الاختراع، وكان اختراع (كلبهاوس) آخر الحيل والمحاولات لقطع دابر الوحدة وتقوية وشائج التواصل، ففتحت غرف الفضاء الواسع واحتشدت المجموعات في غرف الدردشة عن بعد حين أغلقت غرف المنازل ومجالسها وأبوابها.

استمعت البارحة إلى واحد من هذه المجالس، وكان النقاش بين المنتدين واسعا، وفي موضوع محدد حضره أكثر من مئة وسبعين مستمعا ومتحدثا، وكأنهم مجتمعون في مجلس واحد رغم أنهم جاؤوا من أماكن شتى، وانتقلت إلى مجلس آخر وفي موضوع مختلف، وقد شارك بالحضور والمحادثة أكثر من مئة شخص، وهو عدد كبير إذا ما قورن بمن يحضر محاضرة تدعو لها أكبر المؤسسات الثقافية والفكرية أو من يحضر إحدى الندوات العلمية التي تدعو لها عادة الجامعات والنوادي الأدبية.

هذا الوافد الجديد لن تكون له شعبية تويتر ولا السناب، ولكنه سيكون إضافة مهمة وحلا افتراضيا يكون الجد فيه أكثر من الهزل. ظاهرة المجالس المنزلية (كلبهاوس) ظاهرة جديدة للتواصل على بعد، تضاف إلى سابقاتها من أنواع السوشال ميديا كالواتس والتويتر والسناب، وما هو مثل ذلك مما تجود به المخترعات والإبداعات البشرية، واختراعه دليل على أن الإنسان اجتماعي بطبعه لا يطيق العزلة ولا يستطيع البقاء دون ناس وأصدقاء وأحاديث ولقاء، وصدق أبو الطيب:

كلما أنبت الزمان قناة

ركب المرء في القناة سنانا

Mtenback@