عبدالحليم البراك

البرج العاجي والمثقف العضوي

الاثنين - 15 فبراير 2021

Mon - 15 Feb 2021

المصطلح العربي الشائع بأن بعض المثقفين يعيشون في «برج عاجي»، مصطلح شائع، وقليل منهم يعرف المصطلح الآخر، فإن ما يقف مضادا له هو «المثقف العضوي»، والمعنى أن بعض المثقفين والعلماء (العاجيين) يعيشون خارج اهتمامات المجتمع ويبررون ذلك بأن القضايا الفلسفية والعلمية والفكرية هي أهم من مفردات اهتمامات الناس، وحياتهم اليومية، وهذا نتيجة طبيعية لانغماسهم في اهتماماتهم العلمية من جهة، ومن جهة أخرى فشلهم في الربط بين اهتماماتهم العلمية وتنزيلها لعالم الواقع، فمثلا فشل المثقف في الربط بين اهتمامات البسيطة الإلكترونية اليومية في جيوبهم، حتى جاءت اللحظة التي اكتشف العالم فيها أن الرأي الجمعي يمكن أن يتشكل من خلال تطبيق في هاتف ذكي! وقد يكون السبب هو تأثير الآخر الذي يمثل وعي المثقف بدوره العضوي تهديدا له، فيتم تحييد العالم والمفكر حتى لا يتدخل في تشكيل عقل من حوله!

وعلماء التربية (كأي علماء آخرين) في الجامعات يدرسون بشكل أكاديمي رتيب فلسفة التربية وعلم النفس، يدرسون قواعد العلم بشكل نمطي، بينما ثقافة اليوتيوب (على سبيل المثال) تخترق البيوت، وتشكل عقل الطفل وترسم تربيته بعيدا عن الجامعة والكلية والقسم الذي هو المعني في فهم التربية، لأن المثقف والعالم والمفكر ليس عضوا في المجتمع بشكل فاعل، بل هو جسد فكري منفصل تماما عن المجتمع، ولذلك لا توجد صناعة للفكر للناس ما دام المفكر خارج إطار تفكير مجتمعه، ولا يحضر العالِم للمجتمع إلا بجسده (العامي) بعد أن يخلع عنه (اللاب كوت) أو رداء المعمل!

لذلك ستجد - نتيجة لذلك - في المجتمع من يقلل من المثقف والثقافة، والفكر والفلاسفة، لأنه لم يرَ أثرهم، لدرجة أننا نسمع ونرى إدانة سمجة للقراءة والفكر لأنهما يجعلان ممَن يتعاطى معهما معقدا أو مريضا أو أنه - على الأقل - خارج دائرة العالم حوله، والسبب هو من العالم نفسه الذي لم يقدمه نفسه كعضو من المجتمع يتعاطى قضاياه ويتناولها ويدافع عنها ويعتبرها جزءا من مهامه اليومية! بل يصل الأمر لأن يتناول الناس كيف أن أحدهم عبثت بعقله الكتب لدرجة الجنون، وآخر يقرأ في الفلسفة حتى صار معقدا أو (نفسية)، وهذا قد يحدث، ولكن لم يحسب الآخر الذي جن جنونه بدون قراءة كتاب أو تعاط للفكر!

وستجد أيضا من المثقفين من يقلل من قيمة المثقف الآخر لأنه يتناول هموم المجتمع البسيطة ويقوم بفلسفتها بطريقته الخاصة، فكيف لمثقف يكتب مقالا عن السناب شات أو يتناول تأثير كرة القدم في تشكيل ثقافة المجتمع، سنتفق أن طريقة التعاطي مهمة للغاية، لكن سيبقى تأثير المثقف - ولو كان سطحيا- عندما يتناول هموم المجتمع أهم بكثير من آخر يتناول قضايا فلسفية معقدة لكنها ليست جزءا من المجتمع وتغييره.

الموضوع أكبر بكثير من تعاط سريع لهذا الموضوع، ويحسب المصطلح (المثقف العضوي) للفيلسوف الإيطالي أنطيونيو غرامشي الذي ركز على مسألة أن تكوين المثقف ينبع من المجتمع، ومن المتوقع أن تكون اهتماماته نابعة من مجتمعه ليكون عضوا مكونا له، وإلا فإن الآخر (غير المثقف) سيساهم بطريقة سيئة في تشكيل وعي المجتمع، بل وأكثر من ذلك وهو اتجاهاته!