ياسر عمر سندي

أنا هنا

الأربعاء - 10 فبراير 2021

Wed - 10 Feb 2021

الحياة عبارة عن منظومة من عدة مكملات تسلسلية، وهي أيضا مجموعة مختلفة من فلسفات تفاعلية تساعدنا على فهم واقعنا الحالي الذي نعيش فيه ونتعايش معه، فالتطور الفسيولوجي والنفسي والتربوي والثقافي منذ ولادتنا إلى بلوغنا مرحلتنا العمرية الراهنة يعتبر مخزن خبراتنا وحصيلتنا المعرفية، لما نحن عليه الآن وبين ذاك الأمس بمخزونه، وذلك الغد بمكنونه نشير إلى موقعنا الحالي بنقطة إسقاطية تنعكس بـ «أنا هنا».

تكمن معظم مشاكلنا إما بشدة العودة إلى ذكريات الماضي أو الإسراف في التفكير المستقبلي، اللذين يعملان كماشتين متعاكستين واحدة تساعد على التقهقر والأخرى تعطل من التطور وتمنعان أيضا من المتعة الحقيقة الملموسة والمحسوسة لحظيا، فالموروثات السلبية والثقافات التربوية تزيدان من نسبة الحذر وترفعان من معدل الضجر لدى البشر، واللذان يؤديان إلى الاضطرابات النفسية التي ترفع من معدل احتمالية الإصابة بالأمراض العضوية التي أكدها علماء النفس بمصطلح «الأمراض السيكوسوماتية» Psychosomatic، وهي الأمراض النفسجسمية التي تتكون من حالة نفسية عرضية يتم إعطاؤها انتباها مبالغا فيه فتتحول إلى مشكلة مرضية تؤثر على عضو من أعضاء الجسم الفعال مثل أمراض القولون العصبي والصداع النصفي والقلب والسكر والضغط.

الواقع الآني في النقطة الحالية التي أقف عليها أنا هي خير من الانحباس في دائرة الاستنزاف المؤلم، التي تحرمني الاستمتاع المادي والمعنوي والنفسي وتجردني من جماليات الحياة بإهدار الوقت في البحث عن إجابة عن السؤالين: لماذا فعلت كذا سابقا؟ وكيف سأفعل كذا غدا؟ بينما أستطيع الإجابة عن السؤالين التاليين: أين أنا الآن؟ وكيف أقضي وقتي باستمتاع؟

هنالك من يتمتع بقدر عال من العلم والمعرفة المحاطة أيضا بقدر كاف من الحذر والحيطة التي تجعله مرهونا بتلك الدائرة المغلقة بعدة تساؤلات فكرية يصرح بها أحيانا ويستجديها مرات عديدة ويطرحها بأسلوبه ويتوقعها بفكره، وفي رأيي أن آلية العقل لديها القدرة العالية بتوجيهنا إلى مزايا كثيرة ومواهب عديدة إذا ما أحسنت إدارتها وتمكننا من الحرية والاستقلالية، لكن للأسف نحن كثيرا ما نقيد أيدينا وأرجلنا بسلاسل فكرية وأغلال وهمية ثلاث تفقدنا لذة التمتع بمنهجية «أنا هنا» وتبعدنا عن تلك القوة السحرية للراحة النفسية والبدنية.

أول القيود العيش مع شبح الماضي، وهو فعليا أشبه بالشبح الذي يخيف بلا وجود، ويفزع بمجرد سماع قصته، صحيح أن السلوك التربوي هو عنصر مؤثر في تكوين الشخصية من حيث إضفاء سمة الحنان بمراحله أو القسوة بدرجاتها، ولكن ما أعنيه هو عدم الاستهلاك اللاشعوري باللجوء لآلية الحيل الدفاعية للسلوك باستدعاء الماضي في كل موقف، والذي من المفترض أن يحل مكانه الاستبصار اللحظي وهو الإدراك والفهم الواعي، فأنا لست مطالبا بعودة الماضي وأيضا غير ملزم بتوقع الآتي، لكني محاسب على وضعي الراهن، فقياس الزمن الذي أنا فيه هو جميع ما أملكه ماديا ومعنويا بحلوه ومره.

وثاني القيود هو الانغماس في الخيال المستقبلي والتخطيط التأملي وعدم السيطرة على أحلام اليقظة المفرطة ولا أعني بذلك العشوائية البوهيمية في الحياة ولكن اللجوء إلى التخطيط المنضبط مع البعد عن الإنهاك الفكري والسوداوية الاستشرافية لما سيأتي من مال وعيال ورزق ومعيشة. والقيد الثالث يكمن في التناسي والإهمال للحظة الجمال، فعلى الرغم من أن النسيان يعتبر من أكبر النعم، فالتناسي على النقيض من ذلك يجلب الهم والغم، وأقصد بالتناسي هو تعمد نسيان الوقفة اللحظية الجميلة التي أجد نفسي بها وإغفال اللحظات السعيدة وأنا في قمة عافيتي وصحتي وفرحي وسروري مع من هم حولي من زوجة وأبناء وأم وأب وإخوة وأصدقاء ووظيفة ومنصب وعلم وثقافة.

«أنا هنا» منهجية يتقن دورها الأطفال فيعيشون لحظات اللعب بفرح ويجدون عفويتهم الموقفية بسعادة ويقضون أوقاتهم الواقعية بكسرهم للقيود الوهمية.

@Yos123Omar