عبدالحليم البراك

في الثناء على النسيان

الاثنين - 08 فبراير 2021

Mon - 08 Feb 2021

لا يزال الناس يثنون على الذاكرة، ويحسد بعضهم بعضا على ملكة التذكر وعدم النسيان، ويكاد يكون أصحاب الذاكرة الفولاذية الجيدة موصوفين بالعبقرية، ليس لشيء إلا على قدرتهم على استحضار المعلومة متى ما أرادوا، ومن صفة النسيان فإنها تنعت بالآفة حتى سميت «آفة النسيان»، ولكن هذا ليس دائما، فإن كنت تنسى كثيرا فهذا يعني أن لديك صفات حسنة مرتبطة بالنسيان.

من ينسى يعتبر إنسانا طيبا، لأنه ينسى اعتداء الآخرين عليه، وينسى ما حدث بينه وبينهم، فتصبح ذاكرته بيضاء نقية لا يشوبها أي نوع من أنواع الحقد والضغينة، ويحتاج لألم كبير حتى يبقى فلا ينسى، أما من يتذكر فهو لا يغفر لأن الحادثة في ذاكرته لا تمحى، ولا تزال أهواء النفس حاضرة.

ومن فضائل النسيان أن صاحبها لا يبدو أسيرا لفكرة واحدة، فهو إن قرأ نسي، وإن مرت عليه فكرة رحلت عنه، فلا يبقى له إلا الفهم فقط فتكون أفكاره من صنعه وحده، والتي هي خليط الأفكار التي تلقاها، وما زادها من أفكاره وتأملاته، بينما من يتذكر لا يملك إلا أن يجتر فكرة التقطها، فلا يستطيع عقله - إلا فيما ندر - أن يصنع فكرة مستقلة لأن عقله صار أسيرا للفكرة المبدعة الأولى، بل إن من ينسى لا يطبع أحدهم بصمته عليه، فهو نسيج وحده، فلا ينتمي لمدرسة واحدة لا يحيد عنها، فهو مدرسة مستقلة، لأنه لا يشبه أحدا، أما من يتذكر، فإنه مأسور لبصمة غيره عليه، فهو يتذكر هذا فيتقاطع نسيجه من نسيج غيرها تكرارا منه فلا إبداع فيه.

من ينسى لا ينهزم لصورة واحدة في ذهنية لأنه ليس لديه مثال مثالي، وليست لديه صورة تبقى في ذهنه فيتخلص من الهزيمة النفسية تجاه الآخرين، فلا يقلد أحدا لأنهم لا يتذكرهم ويحتاجهم، وقد يتفوق على الآخرين لأن له صورة مختلفة عنهم غير مهزوم لهم، بينما من يتذكر؛ يتذكر صورة أخرى يبقى مهزوما لها يكررها مرارا وتكرارا.

ومن فضائل النسيان أنك تنسى الموتى الذين تفتقدهم فلا يصاحبك الألم، فلذلك من لا ينسى من فقدهم حزنه دائم، ومن ينسى يبقى في الحياة يعيش يومه، فرغم أن الذكرى السعيدة تبهج، لكن الذكرى المؤلمة تحزن، وربما يفضل الناس دفع الحزن كأولوية على أن يبقى طعم السعادة والفرح، وتنسى الإحراج الذي أصابك فتبقى في بؤس مقيم.

يقال إن النسيان يرتبط بطيبة القلب، فإن كان ذلك كذلك، فهذه ميزة أخرى للنسيان، ليبقى المتذكرون مرتبطين بالتذكر فكأن قلوبهم خالية من الطيبة، وإن كان هذا الرأي ليس شرطا مرتبطا لكن يبقى أن له وجهة نظر، أقل ما يمكن أن يقال: لو صرف الطيب حقده وحسده على الآخرين وأسرف فيه لرسخت ذكراهم السيئة في رأسه، ولأنه طيب القلب سمح النوايا ينسى!

ولعل أطيب ما يمكن أن يحدث - إن أمكن هذا - هو أن يتحكم الإنسان بملكة التذكر والنسيان، فيذكر من يرغبه به في عقله وينطبق به في كلامه، ويتجاهل ما يكرهه وما يؤذيه ويزيله من عقله تماما، فلو تحقق هذا الأمر فإنه نور على نور، وفي التذكر والنسيان يجتمع الإنسان.

Halemalbaarrak@