فرحان الذعذاع

ربابة

الاحد - 07 فبراير 2021

Sun - 07 Feb 2021

في مجلس شمالي وبعد عشاء دسم جدا عند رجل كريم جدا بمنطقة كريمة، يتسابق أهلها مرحبين بكل زائر لمنطقتهم منطقة الجوف، كانت أمسيتنا في ليلة من ليالي الشتاء الشمالي الباردة، الدافئة شعورا ومشاعر، قرب شبة نار شمالية داخل خيمة تراثية أخذت شهرة في المنطقة الشمالية.

كانت جلستنا لتناول شاي المخدار الشمالي المحمّل بالحرية، فمحضِّره لا يجبرك على كمية سكر معينة، إنما يترك لك الحرية بأخذ الكمية التي تناسبك بعد أن يأخذ ورق الشاي وقته الكافي ليمتزج بالماء، وكعادة أهل الكرم الشمالي تكون كمية أوراق الشاي الخشنة كافيه لتغيير لون الماء إلى الأسود.

بهذه الأجواء الفخمة كفخامة قلعة مارد والشامخة كشموخ زعبل والدافئة شعورا كدفئ مسجد عمر، تناول شاب نحيل الجسم في العشرينات من العمر شنطة من الجلد الأسود وأخرج منها ربابة تظهر عليها جودة الصناعة، ثم بدأ بـ «جر الربابة»، ألوان متعددة من الأنغام والعزف المتقن، وبحكم أن خبرتي بالفن بجميع أنواعه صفرية، إلا ببعض مما علق في الذاكرة من دروس الموسيقى بالصفوف الابتدائية، من سلم موسيقي وبعض من الذوقيات وحسن الاختيار التي أزعمها، وربما ينطبق علي قول القائل فيها «وكل يدعي وصلا بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك».

أخذ هذا الشاب اليافع ينوع العزف من الألم إلى الفكاهة إلى الإمتاع، وسط تفاعل من الحاضرين، لا أعلم متى كانت آخر مرة حضرت فيها شخصا يجر على الربابة لكن المؤكد أنها منذ عشرات السنين، فقد كانت هذه الآلة فاكهة المجالس في ليالي السمر لدى كثير من قبائلنا في الشمال، زمن مضى وقد أدركنا أواخر أيامها مع رجال أغلبهم غاب عن دنيانا ولا زلنا نذكر أخلاقياتهم ورجولتهم وصدق حديثهم، حتى أصبحنا نصفهم بزمن الطيبين.

قال الشيخ ابن عثيمين: الغناء الذي للبادية إذا اشتمل على آلات اللهو والمعازف فهو محرم. وأنا أدين بهذا الحكم، كما أدين بحرمة النظر إلى كثير من مقاطع الجوال والصور في القنوات الفضائية والسوشال ميديا، وكثير من سلوكياتنا من الغيبة والنميمة والحسد والكذب والنفاق.

ولا شك بأن الأحكام تتغير بتغير الزمان والمكان، وكثير من العلماء يكون لهم قديم وحديث. لا أبحث عن إباحة المعازف والأغاني، ولكن أدعو إلى مقارنة بين الآثار ومحاولة جمع السلوك في قالب منصف.

نشأت في بيئة ترى وأنا أرى معها ومنذ عشرات السنين وعن قناعة؛ أن التلفزيون في ديوان الرجال من خوارم المروءة (ومنقود) مروءة وليس شرعا، مع أن تلفزيون الأمس كما يعلم القارئ الكريم ليس كقنوات اليوم من ناحية انضباط العبارة والهيئة والمَشاهد، فكيف سيكون الحكم علينا اليوم من أهل مروءة الأمس؟ ونحن نشاهد بعض القنوات العربية اليوم، التي عمّت أغلب المجالس متشددها ومنفتحها، خاصة نشراتها الجوية التي غالبا ما تقدم من نساء قادمات من مناطق استوائية!

عودا على ذلك الشاب النحيل وقوسه النحيل الذاهب الآتي بكل مشاعر الحزن وهو يأخذنا إلى عالم آخر:

سقى غيث الحيا مزنٍ تهاما

على قبر بتلعات الحجازي

يعط به البختري والخزاما

وترتع فيه طفلات الجوازي

وغَنَّت رَاعْبيّات الحماما

على ذيك المشاريف النّوازي

صلاة الله مني والسلاما

على من فيه بالغفران فازي

اللهم صل على سيدنا وشفيعنا محمد

لا تكاد تخطئ العين الحزن الذي ارتسم على وجوه الحاضرين وهم يسمعون جرة الربابة مصاحبة لهذه الكلمات، وكأنهم يقدمون واجب العزاء للشاعر محمد بن لعبون بزوجته التي أحبها وهام بها، وعاملها بقسوة زمانه الذي كان فيه الرجل يخجل من إظهار حبه لزوجته، ومن يحب بعكس زماننا الذي تجاوزنا فيه بالتعبير حتى أصبحنا نخجل من مبالغة بعض الرجال لبعضهم بالتعبير عن المشاعر، حتى وصلنا لاستخدام العبارات الأنثوية كـ(يا حياتي وفديتك)، وما هو موغل في الرومانسية، الذي لا يليق استخدامه بين الرجال!

لا تعتذر مال للهجر منك تبرير

صدك بليا ذنب والله ظليمه

ما صار لي بعدك يفوق أي تصوير

تجددت كل الجروح القديمه

وإن كانها عني خذتك المقادير

فالعفو عند المقدره فيه شيمه

زادنا هذا الشاب النحيل من الغزل والوجد والفخر، وأكملها بالفكاهة.

وحتى لا يطول المقال، أترك للقارئ الكريم أن يعيش مع هذه الأجواء الشمالية وأعود إلى (القالب المنصف) الذي ذكرته في بداية المقال، والذي وإن كان الحكم فيه بتحريم المعازف شرعا لكن حتى هذا التحريم أراه درجات، فغناء يؤدي إلى رقصات ماجنة وحركات خليعة وسلوكيات فوضوية ومرفوضة دينا وخلقا وأدبا وكلمات تعبث بالغرائز وتركز على الشهوة ومكتوبة من منحرف أو شاعر من بيئة مختلفة دينا وخلقا وسلوكا؛ لا شك في أنه يختلف عن جرة ربابة تجعل الحاضرين يتجاهلون وسائل تواصلهم التي تمطرهم صورا وهاشتاقات يندى لها الجبين، ويقتطعون هذا الوقت لسماع جرة ربابة لا أشك في أنها أخف ذنبا مما يرون في جوالاتهم، وبكلمات تحث على مكارم الأخلاق والشيم والقيم العربية والإسلامية الأصيلة، بل ويسكن المجلس وينضبط ويقل الكلام والالتفات والحركة، ويتم التركيز على نغمة القوس النحيل، وعبارات المؤدي التي تحث على مكارم الأخلاق، ومما قلت (أقصى اليمين كأقصى الشمال بُعدا عن الوسط). والله من وراء القصد.

@_shaas_