الديستوبيا المتخيلة والانتخابات الأمريكية
الأحد - 17 يناير 2021
Sun - 17 Jan 2021
تابع كثيرون بحماس أحداث الانتخابات الأمريكية، وبينما حمي وطيس المعركة الانتخابية، وظهرت تفسيرات وتنبؤات بمغزى كل تحرك سياسي؛ زاد الانجذاب للقنوات والمحللين من إعلاميين محترفين ومواطنين أمريكيين عاديين وقراءتهم للمشهد. كانت اللغة سياسية إعلامية محضة، تتخللها مفردات مثل: مشروع قرار، فرز الأصوات، حشد المناصرين، الفصيل السياسي.. لكنها سرعان ما بدأت باستحضار المشاهد والرموز الأدبية المستبطنة في الثقافة العامة للمواطن الأمريكي، بدءا من عبارة «حتى أنت يا بروتوس» من مسرحية يوليوس قيصر التي تصف خيانة بروتوس غير المتوقعة لقيصر وإسقاطها على تصرف نائب الرئيس مايك بنس مع الرئيس ترمب أثناء فرز أصوات المجمع الانتخابي، وكذلك رواية 1984 لجورج أورويل التي تصف تغول الاستخبارات وتطور التكنولوجيا المتواكب مع القمع اليساري في بريطانيا متخيلة.
في هذا المقال أسلط الضوء على عمل أدبي آخر حي في ذهن الأمريكي العادي، استُحضر مرات عديدة خلال الانتخابات، لكنه قد يكون أقل شهرة وانتشارا لدى المتابعين العرب، العمل هو رواية قصة الخادمة The Handmaid’s Tale للكاتبة الكندية مارجريت آتوود.
هذه الرواية تنتمي للديستوبيا (نفس الجنس الأدبي الذي تنتمي له رواية 1984)، كلاهما يتخيل المستقبل بنظرة مفرطة التشاؤم، ويترافق ذلك غالبا مع قمع ومصادرة حريات.
كتبت قصة الخادمة ونشرت بين عامي 1979 و1985 وتشكلت بتأثير من انتخاب رونالد ريغان اليميني المحافظ لرئاسة أمريكا، وهذا تشابه مع حملة ترمب الانتخابية التي تأثرت بريغان من حيث المنطلقات والمبادئ، حيث استخدمت شعار حملته نفسه (لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى).
تتحدث روايتنا عن انقلاب سياسي - عسكري في أمريكا، يقوده اليمين المحافظ وتتكون على أعقابه دولة متخيلة اسمها غيلياد، تفرض على النساء بالقوة التخلي عن أموالهن والانسحاب من الحياة العامة، وتحرم عليهن الإجهاض، ولمقاومة انخفاض أعداد المواليد في غيلياد يستحدث حل مستنبط من تفسيرات قروسطية لنصوص دينية، فتجبر النساء البيض غير المتزوجات زواجا شرعيا على التحول إلى ملك يمين لعائلات الطبقة العليا، حيث ينجبن مع إلغاء حقهن في أمومة المولود! ويكون المولود للعائلة ولا تراه مرة أخرى، باختصار يخسرن كل «مكتسباتهن» التشريعية والقانونية التي اكتسبنها في العقود الماضية. وهكذا تتصور الرواية مستقبلا قاتما خانقا للنساء بسبب العمل بشعار (العودة للقيم الأصيلة).
أهمية استحضار المعلقين للرواية في سياق الانتخابات الأمريكية هو في الدور الذي تلعبه كعمل أدبي في التحذير واختزال النقاش الطويل بصورة مجازية من الرواية، مثلا (القيم الأصيلة) التي يريد مريدو ترمب تحقيقها توصم مجازيا بأنها إعادة إنتاج لغيلياد المتخيلة، والمرأة الأمريكية المنادية بمنع الإجهاض وحق الحياة يستخدم معها مجاز (الخادمة/ملك اليمين) لتحذيرها: (قد لا تقف التغيرات اليمينية عند حق الحياة وقد تنتهي بانتزاع حقوقك المدنية الأخرى كامرأة).
هكذا يذهب المتناظرون لعمل موجود في الذاكرة الثقافية للأمريكيين ليستحضروا في مجاز قصير مُفحم، الزخم القوي للفكرة، بدلا من استخدام السيناريوهات الواقعية أو التفنيد الموضوعي، النتيجة أننا نجد أحداث الرواية تزاحم الحجج في النقاش السياسي في عام 2020 بعد أكثر من 30 سنة من صدورها.
وهكذا بين عامي 2016 و2020 عادت الرواية بقوة للواجهة، ويتضح أن ترمب بعث من حقبة ريغان الكثير، ليس فقط شعار حملته، ولكن استفز المناهضين له فأعادوا استخدام الرموز والأيقونات المرتبطة بقصة الخادمة، وتجلت في النقاش السياسي بوصفها أُمثولات لما يمكن أن يؤول إليه هذا التوجه المعاكس لليسار وحرياته.
وبالإضافة إلى المجاز اللغوي، رأينا حضورا بصريا لأيقونات الرواية في المظاهرات السياسية المناهضة لليمين، حيث ترتدي المشاركات اللباس الأحمر الذي ترتديه طبقة ملك اليمين/الخادمات الخيالية، في استحضار صارخ لروح الرواية (قمع حرية المرأة في الإنجاب والإجهاض)، منظر النسوة بهذه الجلابيب أمام البيت الأبيض منظر غير عادي، يثبت أن الأدب الذي زُعم موته لا يزال حاضرا في الوجدان شاخصا أمام الأبصار.
ومع أن القوة البصرية للون الأحمر لا تنكر، إلا أن هذا اللون ليس اللون الوحيد فيها الذي أعيد إحياؤه، حتى اللون البني الذي يرمز لطبقة الـ Aunts، وهن أقرب ما يكُنّ للجلادات، استخدم لانتقاد القاضية إيمي كوني باريت ذات التوجه المحافظ، ومرشحة الرئيس ترمب لمقعد في المحكمة العليا الأمريكية (عينت فيما بعد في المنصب).
فلو بحثنا عن اسم القاضية في منصة تويتر سنجد حسابا ساخرا يصورها مرتدية اللون البني ويرسمها في إطار رواية قصة الخادمة، ليدين قناعاتها اليمينية ويشيطنها لأن توجهها «يقمع» المرأة كما يزعمون، وشيطنتها تتم بمنتهى القوة بإلصاقها بطبقة الـ Aunts (الخالات)، والتعريض بها بوصفها مجرد جلادة في زبانية غيلياد، وامرأة تستخدم إمكاناتها لقمع النساء.
مع انتهاء الفترة الرئاسية للرئيس ترمب، إلا أني لا أتوقع أن يفتر ظهور هذه الرواية والإحالة عليها، ففي ظل الاستقطاب السياسي الحاد بين المحافظين واليسار الراديكالي سيجيش اليسار كل أسلحة الشيطنة والاغتيال المعنوي، وهذه الرواية ستكون إحدى الأدوات بالتأكيد.
ختاما، مقولة موت الأدب مغالطة تمر علينا بلا إنكار رغم أن الشواهد لا تنفك تدحضها باستمرار، وأحدث هذه الشواهد يتجلى في استحضار الأدب في التحليل السياسي.
في هذا المقال أسلط الضوء على عمل أدبي آخر حي في ذهن الأمريكي العادي، استُحضر مرات عديدة خلال الانتخابات، لكنه قد يكون أقل شهرة وانتشارا لدى المتابعين العرب، العمل هو رواية قصة الخادمة The Handmaid’s Tale للكاتبة الكندية مارجريت آتوود.
هذه الرواية تنتمي للديستوبيا (نفس الجنس الأدبي الذي تنتمي له رواية 1984)، كلاهما يتخيل المستقبل بنظرة مفرطة التشاؤم، ويترافق ذلك غالبا مع قمع ومصادرة حريات.
كتبت قصة الخادمة ونشرت بين عامي 1979 و1985 وتشكلت بتأثير من انتخاب رونالد ريغان اليميني المحافظ لرئاسة أمريكا، وهذا تشابه مع حملة ترمب الانتخابية التي تأثرت بريغان من حيث المنطلقات والمبادئ، حيث استخدمت شعار حملته نفسه (لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى).
تتحدث روايتنا عن انقلاب سياسي - عسكري في أمريكا، يقوده اليمين المحافظ وتتكون على أعقابه دولة متخيلة اسمها غيلياد، تفرض على النساء بالقوة التخلي عن أموالهن والانسحاب من الحياة العامة، وتحرم عليهن الإجهاض، ولمقاومة انخفاض أعداد المواليد في غيلياد يستحدث حل مستنبط من تفسيرات قروسطية لنصوص دينية، فتجبر النساء البيض غير المتزوجات زواجا شرعيا على التحول إلى ملك يمين لعائلات الطبقة العليا، حيث ينجبن مع إلغاء حقهن في أمومة المولود! ويكون المولود للعائلة ولا تراه مرة أخرى، باختصار يخسرن كل «مكتسباتهن» التشريعية والقانونية التي اكتسبنها في العقود الماضية. وهكذا تتصور الرواية مستقبلا قاتما خانقا للنساء بسبب العمل بشعار (العودة للقيم الأصيلة).
أهمية استحضار المعلقين للرواية في سياق الانتخابات الأمريكية هو في الدور الذي تلعبه كعمل أدبي في التحذير واختزال النقاش الطويل بصورة مجازية من الرواية، مثلا (القيم الأصيلة) التي يريد مريدو ترمب تحقيقها توصم مجازيا بأنها إعادة إنتاج لغيلياد المتخيلة، والمرأة الأمريكية المنادية بمنع الإجهاض وحق الحياة يستخدم معها مجاز (الخادمة/ملك اليمين) لتحذيرها: (قد لا تقف التغيرات اليمينية عند حق الحياة وقد تنتهي بانتزاع حقوقك المدنية الأخرى كامرأة).
هكذا يذهب المتناظرون لعمل موجود في الذاكرة الثقافية للأمريكيين ليستحضروا في مجاز قصير مُفحم، الزخم القوي للفكرة، بدلا من استخدام السيناريوهات الواقعية أو التفنيد الموضوعي، النتيجة أننا نجد أحداث الرواية تزاحم الحجج في النقاش السياسي في عام 2020 بعد أكثر من 30 سنة من صدورها.
وهكذا بين عامي 2016 و2020 عادت الرواية بقوة للواجهة، ويتضح أن ترمب بعث من حقبة ريغان الكثير، ليس فقط شعار حملته، ولكن استفز المناهضين له فأعادوا استخدام الرموز والأيقونات المرتبطة بقصة الخادمة، وتجلت في النقاش السياسي بوصفها أُمثولات لما يمكن أن يؤول إليه هذا التوجه المعاكس لليسار وحرياته.
وبالإضافة إلى المجاز اللغوي، رأينا حضورا بصريا لأيقونات الرواية في المظاهرات السياسية المناهضة لليمين، حيث ترتدي المشاركات اللباس الأحمر الذي ترتديه طبقة ملك اليمين/الخادمات الخيالية، في استحضار صارخ لروح الرواية (قمع حرية المرأة في الإنجاب والإجهاض)، منظر النسوة بهذه الجلابيب أمام البيت الأبيض منظر غير عادي، يثبت أن الأدب الذي زُعم موته لا يزال حاضرا في الوجدان شاخصا أمام الأبصار.
ومع أن القوة البصرية للون الأحمر لا تنكر، إلا أن هذا اللون ليس اللون الوحيد فيها الذي أعيد إحياؤه، حتى اللون البني الذي يرمز لطبقة الـ Aunts، وهن أقرب ما يكُنّ للجلادات، استخدم لانتقاد القاضية إيمي كوني باريت ذات التوجه المحافظ، ومرشحة الرئيس ترمب لمقعد في المحكمة العليا الأمريكية (عينت فيما بعد في المنصب).
فلو بحثنا عن اسم القاضية في منصة تويتر سنجد حسابا ساخرا يصورها مرتدية اللون البني ويرسمها في إطار رواية قصة الخادمة، ليدين قناعاتها اليمينية ويشيطنها لأن توجهها «يقمع» المرأة كما يزعمون، وشيطنتها تتم بمنتهى القوة بإلصاقها بطبقة الـ Aunts (الخالات)، والتعريض بها بوصفها مجرد جلادة في زبانية غيلياد، وامرأة تستخدم إمكاناتها لقمع النساء.
مع انتهاء الفترة الرئاسية للرئيس ترمب، إلا أني لا أتوقع أن يفتر ظهور هذه الرواية والإحالة عليها، ففي ظل الاستقطاب السياسي الحاد بين المحافظين واليسار الراديكالي سيجيش اليسار كل أسلحة الشيطنة والاغتيال المعنوي، وهذه الرواية ستكون إحدى الأدوات بالتأكيد.
ختاما، مقولة موت الأدب مغالطة تمر علينا بلا إنكار رغم أن الشواهد لا تنفك تدحضها باستمرار، وأحدث هذه الشواهد يتجلى في استحضار الأدب في التحليل السياسي.