فهد عبدالله

وطأة التطلعات

الخميس - 14 يناير 2021

Thu - 14 Jan 2021

من الأمور التي أعتقد أن الإنسان لو قضى فيها أوقاتا كثيرة في تأمل بعض الأحوال الإنسانية التي تمر بنا جميعا لرجعت عليه بوافر من الوعي والرضا والحكمة، تلك الحكمة التي قد يعرفها جمع كبير من الناس وقد يدركها القليل، وهي أن الإنسان دائم التطلع إلى المزيد، وأنه مهما تحققت تلك الأماني والأحلام السابقة فستحل مكانها أماني وأحلام جديدة، وهذه الحقيقة البشرية التي في بعض أحوالها قد تنهك النفس البشرية وتحجب عنها النظر عن بديع مفردات الحياة الأخرى، وقد أشار إليها الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب».

هكذا جبل الإنسان على التطلع لأشياء جديدة تحل مكان تلك الأشياء القديمة المتحققة، ومهما كانت تلك الأشياء الجديدة التي تطلع إليها كبيرة جدا ويظن أنه بتحقيقها سيكون حقق ما يريده ويصبو إليه، إلا أنه سيجد خانة الأماني والتطلعات امتلأت بأجندة جديدة، ويظل هكذا في حركة دائبة ليس فيها ملل أو كلل.

السؤال الجدير بالذكر والبحث والاهتمام والتأمل: كيف يمكن للإنسان أن يضع هذا التطلع الدائم في موضعه الصحيح متزنا مع بقية مفردات الحياة الأخرى؟ في ظني أنه سؤال مهم جدا وبحاجة إلى أن يثبت في الذاكرة حتى يتحصل الإنسان على إجابة وافيه تحيط بجميع الجوانب.

كنت أتابع لقاء شائقا للأستاذ عبدالله الجمعة، الذي كان يشغل منصب الرئيس وكبير الإداريين التنفيذيين لشركة الزيت العربية السعودية (أرامكو السعودية)، واصفا الحالة التي كانت بعد التقاعد يقول: مدة 13 سنة ونصف السنة لم أسافر إلا بطائرة خاصة، وبعد التقاعد أذهب إلى خطوط الطيران أبحث عن مقعد اقتصادي في الطائرة وقد لا أجد. هذا المشهد قد يعبر عن أحد جوانب إجابة سؤال التوازن المطلوب للتطلعات الدائمة، بأنه مهما حقق الإنسان من تطلعاته وحقق شيئا من أحلامه، قد يأتي عليها يوم وتختفي تلك التطلعات أو يختفي جزء منها، وهنا تتأكد أهمية أن تحقيقنا لتطلعاتنا يجب أن يتزن بتقبلنا لاختفائها، مما يجعل هذه المسألة تحقق استقرارا نفسيا لدى صاحبها، ولا تقوده مثلا للاكتئاب، مثل ما ذكر في اللقاء لبعض من يعرف ومروا بمثل هذه الحالة.

جانب آخر في الاتزان، قد تجد التطلعات والأماني تأخذ حيزا كبيرا من فكر الإنسان ووقته، ويكون فيها نوع من المغالاة المفرطة، مما يكون ذلك على حساب جوانب أخرى كبيرة في الحياة، مثل الاهتمام بالنفس والأسرة والعلاقات الاجتماعية وغيرها، وهذا الأمر بالتأكيد سيكون من الجوانب المظلمة لجانب التطلعات الدائمة، وسيجد في لحظة ما، ولعلها تكون في وقت متأخر كما سمعتها شخصيا من بعض الناجحين الذي مضى بهم العمر، أنه نادم للاستغراق في جانب التطلعات التي هيمنت على كثير من الاهتمامات والجوانب التي كان لا بد لها من الوجود المتكافئ.

الجانب الأخير موجود في بعض الروايات والقصص أو حتى الأفلام التي بنيت على قصص حقيقية لأشخاص بدؤوا من الصفر، وانتقلوا انتقالات سريعة جدا في تحقيق التطلعات والأماني والأحلام، ودعنا تجاوزا نقول: إن الدنيا فتحت لهم على مصراعيها، وفي نهاية المطاف من هذه القصص تجدهم يبحثون عن معنى وجودي عميق وهو السلام الداخلي، وكأن تلك القصص تحكي أن مباهج الحياة في التطلعات قد تساهم في تحقيق الذات والسعادة، ولكنها لا تغني شيئا عن تلك المباهج الداخلية، مثل الاستقرار النفسي والاستقامة الأخلاقية والسلام الداخلي.

حين تشتد وطأة التطلعات والأماني على أحدنا فإن تحقيقها يدخل حيز الواجبات ويشكل بطريقة لا واعية ضغطا متراكما، وبمجرد تحقيقها تستحدث أفكار وتطلعات جديدة وهكذا..

هذه الحالة الضاغطة والوطأة الشديدة للتطلعات، خاصة في هذا العصر المليء بالتغيرات التي قد تزيد من وتيرة التطلعات والأماني، تجعلان من معادلة التوازن أكثر المعادلات إلحاحا لتعلمها واكتساب مهاراتها، والحياة تزخر بكثير من المشاهد التي قد يراها الإنسان في نفسه أو في مجتمعه للتطرف في جانب التطلعات والأماني على حساب جوانب تفوقها أو تعادلها أهمية.

fahdabdullahz@