شاكر أبوطالب

3297 يوما وحازم في انتظار كلية!

السبت - 09 يناير 2021

Sat - 09 Jan 2021

ترددتُ كثيرا في كتابة هذه القصة الخاصة جدا، ولكنني لم أجد بدا من كتابتها ونشرها، لأنها قصة 17 ألف شخص على أقل تقدير، ولا عذر لي في الامتناع عن الكتابة والتعبير عن كل شخص يعيش هذه القصة بتفاصيلها في رحلة التعب اليومية المستمرة، وينام كل ليلة على أمل أن يكون الغد هو البداية لحياة أقل آلاما ومعاناة.

بدأت القصة في أحد مواعيد المتابعة الدورية للحمل، كان الأسبوع الحادي والعشرين، حينما أوصت الطبيبة بضرورة زيارة متخصص في طب الأجنة، وبعد مقابلتنا واحدا من أفضل الاستشاريين في طب الأمومة ورعاية الجنين، أخبرنا بأن الأشعة الصوتية تظهر حدوث ارتجاع جزئي للبول، مع احتمال تضرر الكليتين، وقرر توجيه الحالة إلى مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض، لإكمال متابعة حالة الجنين والحمل الخطر.

كل السيناريوهات كانت صعبة، فالإجهاض لم يعد ممكنا، واحتمالية موت الجنين قبل الولادة كانت واردة جدا، وفي حال صموده حتى الولادة فإنه لن يعيش فترة طويلة! كل الأيام التالية كانت طويلة ومرهقة ومقلقة، فالانتظار وحده حالة صعبة، فكيف والقادم ليس بالأمر الجيد! لم يكن الأطباء متأكدين من الحالة التي سيكون عليها الجنين عند ولادته، لذلك حاولنا أن نبقى منفتحين على جميع الاحتمالات.

في 17 نوفمبر 2011م، وُلد (حازم) وسمعنا صرخته الأولى، وتأملنا وجهه الصغير وشعره الكثيف الأسود، قبيل نقله مباشرة إلى العناية المركزة لحديثي الولادة، حيث مكث مدة 21 يوما، واضطرت الأم لمغادرة المستشفى في اليوم الثالث دون ابنها، كانت لحظة من العذاب النفسي لم تستطع معها أن تحبس دموعها لأيام عديدة، حتى أقاربنا وأصدقائنا أصابتهم الحيرة، هل يهنؤوننا أو يواسوننا أو يتجنبوننا! واضطررنا إلى تكرار سرد قصة حازم مئات المرات لذات الأشخاص في الدائرة القريبة منا، وكان لدينا ولديهم كثير من الأمل في أن تتحسن صحة ابننا قريبا!

لقد عانى حازم كثيرا من فشل كليتيه، وأمه أيضا كانت في صراع يومي مع واقع حياة ابنها، وكيف صبرت وضحت وتصالحت مع الأمر منذ اليوم الأول، وكيّفت حياتها لرعاية ابنها والوقوف معه في كل الظروف الصعبة والمعقدة والمتكررة، دون أي تأثير يذكر على علاقتها ورعايتها لبقية أبنائها، وعاشت كثيرا من اللحظات القاسية والمؤلمة لروحها وقلبها، مستعينة بالصبر والأمل بشفائه.

في رحلة الفشل الكلوي، لا أعلم هل كان من حسن الحظ أو سوئه، أنه لا توجد حالة مماثلة لحازم سواء في المستشفى أو في العائلات من حولنا، كنا بحاجة إلى خبرات ونصائح أي شخص تعامل مع نفس الحالة سابقا، حتى نشعر بشيء من الطمأنينة نحو مستقبل أفضل.

في الشهور الأربعة الأولى بعد ولادة حازم، كانت المتابعة الطبية مقتصرة على مراقبة كيمياء الدم وتراكيز السموم، والتدخل العلاجي المحدود ببعض الأدوية لخفض النسب المرتفعة، التي تشكل تهديدا حقيقيا على الحياة.

وفي أكثر من نقاش، حاول الطبيب المشرف على علاج حازم؛ إفهامنا بأن الممارسة الطبية والخبرات المتراكمة في المستشفى وكثير من المراكز الطبية المتقدمة في رعاية الحالات المماثلة للأطفال المصابين بالفشل الكلوي الكامل منذ الولادة، جميعها تؤكد أن ابننا لا يملك أي فرصة للنجاة، وبالتالي فإن خطة العلاج تقتصر فقط على تخفيف الآلام والتدخل في الأوقات الحرجة!

بعد شفاء حازم من نوبة تشنج قوية نتيجة انخفاض حاد في نسبة الكالسيوم، دخلنا في نقاش حاد مع الطبيب لإيجاد خطة علاجية بدلا من الاكتفاء فقط بمتابعة حالته الصحية! ومن هنا بدأت إجراءات الغسيل الكلوي البريتوني، الطريقة المعتمدة على كفاءة غشاء بطانة تجويف البطن (الصفاق) في القيام بمهمة تصفية الدم، من خلال ملء جزء من البطن بسائل التنقية عبر قسطرة (أنبوب)، وبقائه لفترة زمنية محددة لامتصاص الفضلات والسموم والماء الزائد من الشعيرات الدموية الدقيقة، ومن ثم إخراج السائل بواسطة جهاز مخصص لذلك طيلة فترة النوم في المنزل.

أجبرتنا هذه الطريقة على تغيير بعض تفاصيل حياتنا، أبرزها الخضوع إلى دورات تدريبية لكيفية استخدام المعدات المخصصة، وإعداد غرفة خاصة وتعقيمها جيدا كل ليلة، وشراء سيارة كبيرة تتسع لكل المعدات وملحقاتها لقضاء الإجازات والأعياد خارج المنزل، نظرا لصعوبة السفر جوا.

تخللت هذه الفترة، التي امتدت أكثر من خمس سنوات ونصف السنة، العديد من المضاعفات التي تسببت في إجراء عمليات جراحية لاختبار فاعلية القسطرة أو استبدالها أو تغيير موقعها، أو إراحة الغشاء البريتوني نتيجة الإجهاد، فضلا عن الأعطال الطارئة لجهاز الغسيل البريتوني، التي تتطلب صيانته أو استبداله.

وبعد التراجع الكبير في فاعلية الأداء للغشاء البريتوني، قرر الأطباء الانتقال إلى الخيار التالي، وهو الغسيل الكلوي الدموي، الذي يتطلب زيارة المستشفى والبقاء في العيادة لفترة زمنية تحددها الخطة العلاجية المعتمدة، وكان هذا الجزء من رحلتنا مع الفشل الكلوي هو الأكثر استنزافا في حياتنا اليومية، حيث بدأت الخطة بثلاث ساعات مدة ثلاثة أيام متفرقة، ثم زادت إلى أربعة أيام أسبوعيا، قبل أن تصبح زيارة عيادة غسيل الكلى الدموي مدة خمس ساعات خمس مرات في الأسبوع!

في السنوات الثلاث الأخيرة، لم نذهب إلى أي مكان آخر غير المستشفى! فاتنا عديد من الأعياد والمناسبات العائلية. لقد توقف الوقت بالنسبة لنا، وأصبحنا نعيش رتابة كانت قيدا محكما، بذلنا جهودا كثيرة ومتواصلة للمحافظة على الحياة الطبيعية لبقية أبنائنا، اضطررنا لاستقدام عاملة منزلية وسائق خاص لمساعدتنا في إبقاء أسرتنا متماسكة!

ومنذ أن أصبحت حالة حازم الصحية تسمح بإجراء عملية زراعة كلية، بدأت رحلة أخرى مرهقة، تتمثل في البحث عن متبرع، خاصة بعد استبعادي مبكرا من الفحوصات الطبية الأولية، ورفض تبرع أم حازم في المرحلة الأخيرة لأسباب أسرية وليست طبية. فانطلقنا للبحث بين الأقرباء عن متبرع ومن جميع درجات القرابة، ولم يتقدم إلا أربعة متبرعين جميعهم لا تنطبق عليهم شروط المستشفى للتبرع.

ونظرا لتدني الوعي بثقافة وأهمية التبرع بالأعضاء في مجتمعنا، وطول قوائم الانتظار للمرضى الذين فصيلة دمهم (O+)، ومنهم ابني حازم، ازداد تعقيد عملية البحث عن متبرع حي، الأمر الذي دفعنا إلى نشر إعلان في وسائل التواصل الاجتماعي، وكان أغلب المتصلين الراغبين بالتبرع من جنسيات غير سعودية، وجميع هؤلاء المتبرعين يرفضهم المستشفى لمخالفة شرط أن يكون المتبرع والمريض من جنسية واحدة، عملا باتفاقية تجريم الاتجار بالأعضاء البشرية.

وظهر بصيص أمل في إمكانية زراعة كلية لابني حازم في مدينة تيانجين الصينية، ولكن تفشي فيروس (كوفيد-19) أسقط هذا الخيار، ثم لاح أمل آخر في إجراء زراعة الكلية في مستشفى القوات المسلحة بالرياض، ولذات السبب تم إغلاق العيادات الطبية مع تفعيل الإجراءات الاحترازية في المملكة.

في منتصف أكتوبر الماضي، تواصلتْ أم حازم مع الإدارة المعنية بشؤون طلبات العلاج للمواطنين في الديوان الملكي، وجاءت الموافقة سريعا على العلاج في الولايات المتحدة، وبسلاسة فائقة خلال أقل من شهر تم إنجاز كل متطلبات معاملة العلاج وتوفير جميع المستندات الطبية والوثائق الرسمية، وتواصل معنا فريق التنسيق الطبي وفريق التمريض من مستشفى الأطفال في بوسطن.

وفي الوقت الذي كنا ننتظر فيه موعد إصدار تأشيرة السفر للعلاج من السفارة الأمريكية، تلقيت اتصالا في الساعة السابعة و14 دقيقة صباح يوم الخميس 26 نوفمبر 2020م، من منسق عيادة زراعة الكلى في مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض، الذي أخبرني بتوفر كلية محتملة الصلاحية للزراعة وطلب مني إحضار ابني حازم ومرافق له إلى العيادة في أسرع وقت ممكن لإجراء فحص فيروس كورونا المستجد.

ولأنه سبق أن تلقيت مثل هذا الاتصال مرتين سابقتين، ارتفع سقف توقعاتي إلى حده الأعلى، ولكن لم تتم الزراعة في الحالتين بسبب عدم صلاحية الكلية المتبرع بها، لذلك تعاملت بكل هدوء مع هذا الاتصال، خاصة أن حازم كان يستعد مع أمه للذهاب إلى الجلسة الصباحية اليومية للغسيل الكلوي الدموي، فأخبرتهما وانطلقت إلى مقر عملي.

بعد الواحدة ظهرا، أخبرتني زوجتي بأن الإجراءات جدية ومختلفة هذه المرة، وبأن الفريق الطبي ينتظر فقط الموافقة الرسمية من ذوي المتوفى دماغيا على التبرع بالكلية، وأن الطبيب الجراح قد حدد موعد عملية الزراعة في تمام الساعة السادسة مساء، وبدأ فريق التمريض في الإجراءات والفحوصات الطبية ما قبل الزراعة.

وبسبب تطبيق الإجراءات الاحترازية للحد من انتشار فيروس كورونا، فشلت كل محاولاتي على مدى أكثر من ساعتين للدخول إلى المستشفى، ومرافقة ابني إلى غرفة التخدير والتهيئة ما قبل العملية، وعند الساعة الخامسة والنصف مساء، تم نقل حازم إلى قسم عمليات زراعة الأعضاء في مركز الملك عبدالله للأورام وأمراض الكبد بالمستشفى.

عدت إلى المنزل بقلب مكسور، لأنني لم أستطع رؤية ابني قبل خضوعه لعملية جراحية كبرى صعبة ومعقدة، والوقوف إلى جانب زوجتي في هذه اللحظات الحرجة، التي اختلطت فيها مشاعر الخوف والفرح معا.

ورغم انتظارنا زراعة الكلية لحازم منذ سنوات، إلا أن الساعات الست المحددة لإجراء العملية الجراحية مرت لحظاتها وكأنها أيام! خاصة مع بقائي في المنزل دون حول ولا قوة، وليس هناك من سبيل في التواصل مع زوجتي إلا عن طريق الجوال، وكانت تحدثني بأعصاب على حافة الانهيار، في انتظار خروج حازم من غرفة الإفاقة بعد عملية جراحية استغرقت أكثر من نصف تلك الليلة التي لن تنسى أبدا!

واليوم بعد مرور ستة أسابيع تقريبا، يواصل حازم الدعاء للمتبرع وذويه بأن يجزيهم الله خير الجزاء، لأنهم بموافقتهم على التبرع بكلية فقيدهم، يرحمه الله، قد أنقذوا حياته وخلصوه من آلامه التي لازمته على مدى 3297 يوما، وأنهوا معاناته الطويلة مع الفشل الكلوي التي امتدت أكثر من تسع سنوات.

والأمل معقود أن تكون قصة حازم محفزا للأحياء الأصحاء بالتبرع بأعضائهم، والموافقة على التبرع بأعضاء ذويهم المتوفين دماغيا، لإنهاء معاناة المرضى المتشبثين بأمل قائمة الانتظار التي باتت طويلة أكثر من أي وقت مضى.

shakerabutaleb@