عبدالله العولقي

اللغة.. قوة ناعمة

الاثنين - 04 يناير 2021

Mon - 04 Jan 2021

مصطلح القوة الناعمة من أحدث ما أودع في القاموس السياسي المعاصر، والمقصود منها مساهمة اللغة والفنون والآداب والسينما والمأكولات الشعبية والآثار التاريخية في تعميق وترسيخ المكانة الاستراتيجية لدولة ما، فضلا عن الدخل والاستثمار اللذين تجلبهما هذه القوة المعنوية للشعوب، فهي اليوم معيار سياسي مهم يعكس مكانة الدولة، يقول البروفيسور جوزيف ناي: إن القوة الناعمة تمتلك قدرات فائقة على الجذب والإقناع والسيطرة دون اللجوء إلى العنف والقهر.

تشكل الكتابة الإبداعية أهم مقومات اللغة بوصفها قوة ناعمة، واعتبارها سفيرة التمثيل الثقافي خارج الإطار الجغرافي، ففي القرن التاسع عشر حصلت لفتة عالمية تجاه الأدب الروسي عندما تفجرت ينابيع كبار الكتاب والأدباء، وأصبحوا سفراء القوة الناعمة لوطنهم، مثل: فيودور دوستويفسكي وأنطون تشيخوف وليو تولستوي ومكسيم غوركي، وغيرهم، وعندما فاز الروائي العظيم نجيب محفوظ بجائزة نوبل عام 1988، حصلت لفتة ثقافية عالمية تجاه اللغة العربية وآدابها وفنونها، والأمر نفسه يقال عن الأديب الكولومبي الأشهر غابريل ماركيز، ولهذا حدثت تحولات ثقافية محورية في كثير من دول العالم تجاه الكتابة الإبداعية والاهتمام بالمواهب الفكرية والثقافية باعتبارها ثروة قومية وأداة نوعية من أدوات القوة الناعمة.

اللغة أداة سياسية أيضا، يمارس من خلالها النفوذ والتحكم، فالنموذج الأمريكي يقدم اللغة الإنجليزية بوصفها قوة ناعمة لترويج السيطرة السياسية حول العالم، ولهذا نجدها اللغة الرسمية في تعليم الطب والهندسة وعلوم الفضاء والتقنية النووية في أغلب دول العالم، إضافة إلى ذيوع اللغة الإنجليزية في السينما والثقافة العالمية، وهذا الأمر نجده أيضا بجلاء لدى النموذج الفرنسي وحضوره اللغوي والثقافي في جغرافيا شمال وغرب أفريقيا، ومن هنا نجد أن الصين متعثرة ثقافيا في هذا الجانب في مواجهتها المستعرة أمام الولايات المتحدة، فبكين تفتقد في أدواتها السياسية إلى عامل اللغة لأن الإنجليزية هي الأولى عالميا، ومن هنا نتفهم سر الاندفاعية الصينية في تأسيس وإقامة معاهد الكونفوشيوس المتخصصة في نشر وتعليم اللغة الصينية حول العالم سياسة تعويضية أمام اللغة الإنجليزية.

ففي أفريقيا، هناك تغلغل ثقافي واجتماعي صيني في شرق ووسط القارة عبر تدشين اللغة قوة ناعمة، فقد قدمت بكين بعثاتها التعليمية وفتحت أبواب جامعاتها وكلياتها المختلفة لكي تحقق هدفها في ذيوع اللغة الصينية داخل القارة السمراء، فعلى الرغم من كل العوامل الجغرافية التي تفصل الصين عن أفريقيا، إلا أنها تمكنت من الولوج إليها عبر البوابة الثقافية واللغة الصينية، فعامل اللغة يعد اليوم من أعمق أنواع السياسة الخفية وأشدها تأثيرا للوصول إلى الأهداف الاستراتيجية.

أخيرا، اللغة العربية لها حضورها الفاعل والمؤثر عند الدول الإسلامية في آسيا وأوروبا وأفريقيا، لأنها اللغة الرسمية للدين الإسلامي أولا، وهي لغة حيوية ومؤثرة وتمتلك كل خصائص اللغة لتكون قوة ناعمة، ويمكنها منافسة اللغات الحية العالمية بصورة فاعلة ومؤثرة، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الإغراق في صناعة وتسويق القوة الناعمة قد يؤدي إلى نتائج عكسية، لهذا يردد البروفيسور جوزيف ناي بأنها ليست الحل دائما، ولا تصلح لكل المشكلات.

@albakry1814