النيرة الحربي

حضر الغياب ونشطت الذاكرة.. في وداع حاتم علي

السبت - 02 يناير 2021

Sat - 02 Jan 2021

منذ انتشار خبر وفاة المخرج حاتم علي وأنا مزدحمة بالذكريات، حضر الغياب ونشطت الذاكرة وعلى غير العادة تدهشنا الذاكرة بمثل هذه الأوقات بقوتها وقدرتها على استحضار أدق التفاصيل عدت لدفء بيت «تيته نبيلة» عبقرية وثقافة المحامي عادل وحواراته الجانبية مع ناديا، أشواط الحرب الباردة المضحكة بين مالك الجوربار وأستاذ الجغرافيا وخبير الطقس «عمو نجيب» في مسلسل الفصول الأربعة، تجولت في البيت الشامي القديم بيت أبوعمر وأولاده الأربعة وهم مجتمعون حول البحرة كما تسمى باللهجة الشامية، وسلمى الصغيرة اليتيمة بصحبتهم، وإلى أين آلت بهم الحياة.

استرجعت شارة مسلسلهم «أحلام كبيرة» بصوت نورا رحال «كل شيء ضاق.. ضاق حتى ضاع نامي إذن يا روح نامي الآن»، ثم انتقلت لمكتب المحامية رياض العمري وطاولة الغداء التي تنتظرها مع جدتها على أنغام أغنيات أم كلثوم في مسلسل عصي الدمع، وعرجت على مسلسل قلم حمرة الذي أسرني فيه جنون «ورد» المغلف بالعقلانية والواقعية، صرختها على البحر بعد أشهر من الاعتقال.

أما الأعمال التاريخية فانهمرت علي انهمارا ما بين رايات صلاح الدين في حطين وبكائيات الزير سالم «كليب لا خير في الدنيا وما فيها.. إن أنت خليتها في من يخليها»، وجيش الزير الذي يفر من أمام فارس وحيد، الصديق قبل أن يكون العدو همام.

وبعدها الثلاثية الرائعة التحفة الأندلسية الأمير الطريد عبدالرحمن الداخل وخادمه بدر في عمل صقر قريش، نغمات صفيرهما الخالدة، نخلة الرصافة، قصيدة «أيها الراكب الميم أرضي.. أقر من بعضي السلام لبعضي»، ومن ثم فتيان ثلاث في مسلسل «ربيع قرطبة» يدخلون المدينة الحلم قرطبة وهناك جارية بشكنجية تغني للشاعر ابن عبد ربه «أعطيته ما سألا.. حكمته لو عدلا»، المنصور بن أبي عامر الذي كان أحد الفتيان جولاته وصولاته في دروس العلم وبعد ذلك في بلاط الخلافة، مقولة صديقه وابن عمه التي لا تنسى في مشهد موجع «ما الحياة دون جديد يدهشك؟».

وآخر هذه الثلاثية ملوك الطوائف مجلس ولادة بنت المستكفي، الموشحات، قصائد ابن زيدون، المعتمد بن عباد واعتماد الرميكية يوم الطين، وما أدراك ما يوم الطين! الأهوال وتقلب الأحوال إلى أن صار فقيرا أسيرا في أغمات «فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا، فساءك العيد في أغمات مأسورا».

وأخيرا الملحمة «التغريبة الفلسطينية» القائد أبوصالح، النكبة، التهجير والمخيمات، كرت المؤونة، الشهيد حسن، بندقية أبو رشدي، الالتفاف حول الراديو لسماع الأخبار من إذاعة صوت العرب. وكثير من الأعمال التي لا يمكن حصرها لكنها ستظل في الذاكرة.

السؤال.. لو لم يكن حاتم علي؟ لو لم تكن هذه الأعمال؟ هل كانت ستحتل هذه الحكايات والعبر التاريخية وهذه المشاعر والوجدانيات هذا الجزء الكبير من ذاكرتي وذاكرة جيلي؟ على ماذا كان سيستند وعينا؟ ما الذي كان سيساعد في تشكيل انتماءاتنا وهويتنا واعتزازنا بأبطالنا وتاريخنا وثقافتنا غير هذا النوع من الأعمال الخالدة؟ التي لن نجد لها بديلا في منصة نتفلكس.

كل ذلك وأكثر نقلته لنا كاميرا مخرج صدق وآمن بفكرة أن الفن رسالة وحضارة، نحن لم نفقد مخرجا، فقدنا أيقونة في الإخراج، أديبا وصاحب فكر وثقافة ورسالة ومناضلا قبل كل شيء. فقدناه في الوقت الذي تحولت فيه الدراما العربية إلى قصص سخيفة قائمة على الموضة والصورة وحجم الإيرادات وماذا يريد السوق! بلا أدنى بعد ثقافي أو فني أعمال تنتهي من وجداني وذاكرتي بانتهاء المشهد الأخير، مع شعور قاتل بالذنب للوقت الذي ضاع في مشاهدتها.. وداعا حاتم علي.