مريم الرشيدي

ملامح التأثير في خطب الحرمين الشريفين في جائحة كورونا

الخميس - 31 ديسمبر 2020

Thu - 31 Dec 2020

لم تكن المنابر الدينية، ولا سيما منبري الحرمين الشريفين، بوصفهما أهم منبرين في العالم الإسلامي قاطبة، بعيدة عن الجائحة الاستثنائية التي اجتاحت العالم كله، وما زلنا نعيش أيامها وتفاصيلها، فلو أنعمنا النظر في خطب الحرمين الشريفين، لوجدنا أنها اهتمت بهذا الحدث المخيف الذي استنفر العالم من أجله، وهو اهتمام يأتي امتدادا لما تقوم به حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله - وولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان، من تقديم الرعاية والاهتمام والإرشاد بكل من يعيش على أرض الوطن، مواطنا كان أم مقيما.

ومنذ تزايد عدد حالات الإصابة بوباء كورونا في بلادي، وأنا أرصد بدقة جهود خطباء الحرمين الشريفين في رفع مستوى اللغة المؤثرة في خطبهم، وإذا ما تأملنا تلك الخطب، وجدنا أنها جاءت منسجمة في قوة تأثيرها مع قوة الجائحة التي فتكت بالعالم أجمع، ففي خطبة لفضيلة الشيخ صلاح البدير، قال بعد الحمد والثناء: (لقد طعن العالم في رئتيه بداء كورونا)، تتجلى براعة التأثير في (الأسلوب التقريري) من خلال اجتماع (لام التوكيد، وقد التي تفيد تحقق الوقوع، والفعل الماضي)، وكذلك في التصوير الاستعاري البليغ، حين شبه العالم بالإنسان الذي يطعن، طعنة استقرت في رئتيه.

وبالرغم من استخدامه أسلوب التقرير والتأكيد، إلا أن لغة التفاؤل كانت حاضرة وبقوة، حين قال بنبرة طمأنت السامع، وهدأت من قلقه، وبثت فيه التفاؤل والأمل «أيها المسلمون: والأوبئة تكون ثم تهون، وكم من أوبئة حلت ثم اضمحلت، وجلت ثم جلتْ، وتوالت ثم تولت»، مستشهدا بقوله - صلى الله عليه وسلم: ويعجبني الفأل، قالوا: وما الفأل؟ قال: كلمة طيبة.

ومن ملامح التأثير في خطبة لفضيلة الشيخ سعود الشريم، بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك، قال فيها «لقد وفد إليكم شهر رمضان المبارك، كعادته في إبانه لم يتخلف، وموضع زمانه لم يتوان، لقد أتاكم الضيف على صورته المعهودة، غير أن حال مستقبليه ليست كحالهم من قبل...»، فاستعارة (التشخيص) أدت دورا فاعلا في عملية التأثير، والتشخيص هو إضفاء خواص إنسانية على الأشياء أو المفاهيم التجريدية الجامدة، حيث شبه الشهر الفضيل بالضيف الذي يفد على مضيِفيه، وتكمن ميزة هذه الاستعارة في بعدها التأثيري على نفس المسلم، فالمسلم حين يدعو الضيف إلى منزله، فيأتيه الضيف في موعده وأوانه، لكن المضيِف - بلمحة بصر - قد تبدلت أحواله، وسيطرت حالة الضعف على بدنه؛ فكيف ستكون مشاعره وهو قد استيقن أنه لن يحسن استقبال ضيفه وإكرامه؟

ومما يجذب الانتباه في خطبة الشريم حسن توظيف الاستشهادات الشعرية، حين استشهد بقول الشاعر: لكل ما يؤذي وإن قل ألم / ما أطول الليل على من لم ينم. فالاستشهاد بهذا البيت كان له أثره الجلي في التخفيف من وطأة الجائحة على النفس الإنسانية.

ثم إذا انتقلنا إلى خطبة لفضيلة الشيخ صالح بن حميد في عيد الفطر المبارك، نجد أن الاستعارة مستمرة، إذ من خلالها تركزت عملية التأثير في المتلقي، حيث أسهمت في تقوية المعنى في ذهن السامع وتمكينه، يقول «والعالم تجتاحه هذه الجائحة التي لا تعرف الحدود، ولا تستأذن في الدخول، لا تحدها سلطة، ولا يمنعها مانع...»، ويكمل بالأسلوب الإنشائي (التعجب) الذي أثار نشاط السامع وشد انتباهه، فيقول «مخلوق ضعيف أوقف العالم ولم يقعده، وشل أركان الدول، ارتعد أمامه الأقوياء، واهتزت له منصات العالم...». وفي هذه العبارة نلمح قوة اللفظ ودقة اختياره، المتمثلة في (شل، ارتعد، اهتز...)، فهذه الألفاظ جاءت منسجمة ومتسقة مع قوة الداء الذي أهلك البشرية، فلو اختار (أعاق) بدلا من (شل) لما كان اللفظ متناسبا مع الحال والمقام، ومعلوم أن التأثير في مفهوم البلاغيين لا يتحقق إلا من خلال (مراعاة الكلام لمقتضى الحال).

ثم حين بدأت تباشير انجلاء الغمة تلوح في الأفق، وبدأ الوباء يتجه نحو الانحسار، عادت لغة التفاؤل مجددا في خطبة فضيلة الشيخ عبدالرحمن السديس، إذ قال (مكررا) ما قاله الشيخ البدير «معاشر المسلمين: الجوائح تكون ثم تهون، وكم من أوبئة حلت ثم اضمحلت، وها هي - بفضل الله- البشارات مشوبةٌ بحذر، تتوالى بانكشاف الغمة...»، منشدا بيتا شعريا رائقا متناغما مع طبيعة المرحلة: هذِي التباشير قد لاحتْ مطالِعها / فلْيسْعدِ القوم في حمدٍ وتكبِيرِ.

هذه نماذج سريعة ومقتصرة، حاولت من خلالها الوقوف على ملامح التأثير في لغة الحرمين الشريفين في حدث تاريخي استثنائي، ولو تتبعنا نماذج أخرى من خطب الحرمين الشريفين في الجائحة، لتجلت لنا أساليب مؤثرة متنوعة، ما بين تشبيهات واستعارات وصور بديعية.