أحمد الهلالي

مجامع اللغة العربية في ميزان مصلح!

الثلاثاء - 29 ديسمبر 2020

Tue - 29 Dec 2020

رجل يحمل جهاز قياس حرارة المدعوين على باب الاستراحة التي دعانا إليها أبوحمدان، يبتسم ويتلو على الداخلين تعليماته: (النظر تحية/ الجلوس في الأماكن المخصصة/ وقت العشاء كل ضيف يجلس على طاولة منفردا)، وفي الداخل أدهشتني الاحترازات، لكنني رغم الكمامة عرفت الشاب السبعيني (مصلح) من صوته ولون عينيه الرمادي، وأبوحمدان يشير بأن أجلس في المكان المخصص، أما مصلح فكبراد يغلي، يبقبق:

أنا مع ما قاله الشيخ شافي عن سعة اللغة العربية وإمكاناتها وأنها لغة القرآن، لكن تحدثوا بواقعية، فقد سئمت تقعرات الوراق ولومه للناس، وكأنه لا يعلم كيف احتفى العامة بالعربية، وماذا استفادوا من احتفاءات المجامع والكليات والمدارس وبعض الصوالين الأدبية؟ وأنا سأجيب عن هذا: فالعامة تبادلوا رسائل عن العربية في الأندلس، وعن مواصفات امرأة النحوي (المرفوعة والمنصوبة ووو)، وتبادلوا الأبيات التي تُقرأ من اليمين مدحا ومن الشمال هجاء، والخطب المصنوعة بدون نقط أو بدون حرف معين، وقالوا لبعضهم: تأملوا عظمة وجمال العربية! فأين المتخصصون مما يدور بين العامة من سنين طويلة؟ ثم رشف الشاي، وأكمل:

يا سادة، المجامع والكليات وغيرها عاكفون في صوامعهم يجتمعون ببعضهم فحسب، بعض مجالسهم اتهامات بالتآمر، ولطم على حال العربية، وبعضها مدح وثناءات ودعوة إلى التفاؤل وبذل مزيد من الجهود، ثم أشار بأصابعه اليابسة تمثيلا لعلامات التنصيص «وجهودهم ـ قالها وهو يضحك ـ هي قصائد وبحوث ومقالات تنشر في مجلات لا يسمع بها حتى الجني الأزرق»!

فقاطعه عضو المجمع شوقي الوراق: يا مصلح أصلحك الله، أقصِر، أزعجتنا بالثرثرة، وأتعبتنا بالقرقرة والبربرة، جهودنا سبائك ذهب مصقولة تلتمع تحت شموس الحقيقة، لا يكدرها سديم جهلك بها، ولا ضباب اتهاماتك، فنحن غواصون في اللهجات نسبر علائقها باللسان القويم، ونحن أساطين تأليف الكتب والدوريات خدمة للغة القرآن، وسدنة العربية المبرزون، نعقد لتعليمها الدورات، ولتأملها الندوات والمحاضرات، لكن الناس ومن هم على شاكلتك سادرون في الغفلة والجهل، ولا يريدون ذلك، فماذا نفعل؟

فأجابه بضحكة متهكمة على وزن أنشودة (يا طيبة) ممزوجة بندائه: يا وراق، يا وراق! لا أدري كيف سيكون اسمك بعد أن يُستغنى عن الورق! هل العيب في الناس أم في الواقع الذي يعيشونه؟ كل شيء حولك يهرول نحو اللغة العالمية (الإنجليزية) فقد أصبحت الوظائف ونظم التعليم والتقنية والسياحة والطب والعلوم والسفر وغيرها، كلها تتطلب الإنجليزية، فاتجه الناس يدفعون أبناءهم إلى ذلك، هذا دافع مهم جدا، ثم الدافع الآخر يأتي من شعور بعض الناس بأن العربية لغة حضارة قديمة، وقد أصبحت لغة (تراثية) لا يتمثلون فيها روح العصر، فكأنهم مهزومون من الداخل، يرون القوة في لغة الحضارة الراهنة، ما جعل بعضهم يخلط بين اللغتين أو يفضل لغة العصر، وبعض الناس بحكم تخصصه أو وظيفته منغمس في الإنجليزية إلى درجة جعلته يجد صعوبة في استدعاء بعض الكلمات العربية، فأين دور المجامع والمتخصصين عن مثل هذه الدوافع؟ هل تكفي جهودكم وبحوثكم؟ أنتم باختصار: كل مجمع يرى أنه الأعلم والأفصح، ويشكو من قلة الدعم؟

قام أبوحمدان وأشار بيده إلى باب صالة العشاء، فتأنيت حتى جلس مصلح إلى طاولته، فاخترت طاولة بعيدة عنه، فلو علم أني متخصص في العربية لرفع ضغطي كما فعل بالوراق الذي كاد أن يسقط مغشيا عليه مرتين، كما أخبرني أحد الجالسين!

ahmad_helali@