زيد الفضيل

سبيل الغارق وسفينة النجاة

السبت - 26 ديسمبر 2020

Sat - 26 Dec 2020

وأنا أطالع روايتها الأخيرة، توقفت مليا أمام عديد من الجمل والألفاظ، التي حملت في ثناياها معاني ودلالات عميقة في مضمونها، قوية في سبكها، سهلة في تراكيبها، فكنت تارة كذلك المجذوب المحكي عنه في ثنايا الرواية، وتارة أخرى أستشعر داخلي بصيرة ذلك العارف المبصر بنور الله، وما أقرب ما بينهما من سبيل هو بمثابة الأمان لذلك الغارق، وسفينة نجاة لكل من تاه عن الطريق.

إنه الطريق الذي وجهنا الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بألا نستوحشه لقلة سالكيه كما قال الشيخ في الرواية، وهو الطريق الذي ينقسم إلى ثلاثة مسارات وفق ما جاء في متن الرواية أيضا، وهي: «طريق للتقرب إلى الله، وطريق للعيش في رضا بالقضاء، وطريق للسيطرة على البحور».

ولبلوغ المرء طريقه الذي يأنس به قال الحكيم للمجذوب: «اشرع في السير في مسالك نفسك، فما أشد وأوعر مسالك النفس، لم تطأها قدم قط، وبدون السعي داخل مسالك النفس ستفقد كل الطرق، وفي سيرك تذكر أنك لا تعرف الصديق من العدو، فأنت لم تحط خبرا بالغيب»، وحين تصل النفس إلى بدايات خلاصها، فتتلمس نور إشعاعها الصادق، ويستكين العقل لمنطق يرتكز على قيم العدل، لن تتأثر بسخرية من يواجهها، «فكم من الأنبياء تعرض لسخرية القوم»، كما أن «الأفكار الشجاعة تحتاج إلى وقت لتنتصر، ولولا الحرية ما كان الحساب، ولولا العلم ما جاء الفهم».

حقا ما أجمل هذه المعاني! وما أعمق دلالتها! وهي شهادة أكتبها بصدق وإيمان في حق كاتبة كبيرة أحيت الأمل في نفسي وقد كاد أن يذبل، وكادت روحي تستكين حسرة وخيبة في ظل غبش متراكم يلفحك ببساطة ألفاظه، وسطحية معانيه صباح مساء، ولا تعرف كيف السبيل لمواجهته في ظل حالة الاسترسال الكبير والسريع في عالم الطباعة والنشر، وسوق الكتابة والكتاب، فكان أن جاءت رواية «سبيل الغارق: الطريق والبحر» للروائية وعالمة اللغة المصرية الدكتورة ريم بسيوني لتحيي ما ضمر في داخلي، وتؤكد أن الإبداع لا يمكن أن يضمر، وأن الشمس لا تختفي وراء غربال، وأن تراثنا زاخر بجواهره الناصعة التي لم يكتشفها أبناؤها أولا، لأنهم لم يجهدوا أنفسهم قليلا في معرفة خفاياها، والبحث في الزوايا عن تلك الخبايا الثمينة.

وليتهم يقرؤون ويتدبرون ما حوته أسفار أولئك الكبار من رواد حركة التنوير والكتابة العربية، الذين سطروا أجمل الكتب، وأبهى الروايات، التي أبت «ريم بسيوني» إلا أن تكون امتدادا لهم بأعمالها المتنوعة، ولا سيما روايتها السابقة «أولاد الناس»، وروايتها الأخيرة «سبيل الغارق» التي اقتبست منها بعض الجمل المحملة بتلك المعاني والدلالات العميقة، وما أحوجنا اليوم لأن نبحث عن سبيل ننقذ به أرواحنا وعقولنا الغارقة في متاهات الحداثة والمعاصرة، لنكون ممن عناهم الله بقوله تعالى «الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب (28) الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب».

في هذا السياق، كم أستشعر آيات الذكر الحكيم التي حاج الله بها خلقه الغافلين، أولئك الذين درجوا على التشكيك في وجوده وعظمته، رغم كل دلائل الإعجاز والعظمة العقلية والعلمية المحسوسة، لكنهم لم يشرعوا في السير في مسالك نفوسهم بصدق، وما أشد وأوعر مسالك النفس، ولذلك، كلما تلوت كتابه المحكم، وتأملت في ثنايا آياته الكريمات التي يحاور فيها الله عباده الغافلين، أيقنت بعظمة هذا الكتاب المعجز، وأدركت شيئا من سر بقائه إلى اليوم، وازداد تلامس عقلي وروحي مع ألفاظه ومعانيه، فالصراع بين الخير والشر قائم لم يتبدل، والشيطان على حاله وتحديه للمولى عز وجل، والله بعدله قد مكن خلقه من حرية الاختيار، وحدد لهم بوضوح سبيل النجاة والرشاد.

وما أصدق قوله تعالى في مطلع سورة الرعد حين قال «المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون(1) الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون(2) وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون(3) وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون(4) وإن تعجب فعجب قولهم أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون».

zash113@