زيد الفضيل

الجامعة التي نبحث عنها

السبت - 12 ديسمبر 2020

Sat - 12 Dec 2020

أعلن المتحدث الرسمي باسم جامعة طيبة في الشهر الفائت عن اعتماد إدارة الجامعة استمرار تدريس المواد النظرية لطلابها عن بعد، حتى بعد الانتهاء من جائحة كورونا، وذلك نتيجة للمؤشرات الأكاديمية الجيدة وفق وصفه التي حققها هذا الإجراء.

وجاء هذا الإعلان مع إنهاء الجامعة عقود 300 أستاذ جامعي من غير السعوديين متخصصين في العلوم النظرية، ودون إحلالهم بغيرهم من السعوديين.

والسؤال الذي تبادر إلى ذهني هو: هل كان وجود أولئك الأساتذة عبثا وزائدا عن الحاجة حتى يُستغنى عنهم فجأة، ودون التفكير بمن سيحل بديلا عنهم من أبناء هذا الوطن؟ أم إن في الزوايا خبايا كما يقال؟ ولذلك كان إعلان الجامعة اعتماد الدراسة للمواد النظرية عن بعد، لحل ما يمكن أن يقعوا فيه من أزمة في المستقبل المنظور.

وأشير إلى أن الجامعة قد استحدثت عمادة للتعليم الإلكتروني، التي أخذت بدورها في نشر تقارير دورية أسبوعية عن حالة التعليم والتعلم بالجامعة، حيث نشرت في تقريرها الرابع عشر للفترة من 29 نوفمبر إلى 3 ديسمبر 2020م قائمة إحصائية بعدد الأساتذة والطلاب ومشاكل التقنية، وإلى غير ذلك مما يمكن رصده إلكترونيا، وأتصور أن تقريرا مزخرفا بالألوان كهذا سيكون على مكتب المسؤول ليشعر بالراحة والاطمئنان للقرار المتخذ من قبله وإدارته.

على أنه لم يدرك حجم الكارثة التي نحن فيها بهكذا قرار، فالعملية التعليمية أعمق وأكبر من أن تكون بمثابة ربوت آلي يُقدم خدمة في مؤسسة ما، فلسنا في موقع أبشر المتميز بخدماته، وليست الجامعة مؤسسة بنكية يقتصر التعامل معها على سحب وإيداع، بل هي روح قائم على حميمية التفاعل المباشر بين الطالب والأستاذ، فهل تدرك إدارة الجامعة ذلك؟ ومن جانب آخر، إذا تم اعتماد الدراسة عن بعد في العلوم النظرية، فحتما لن يكون للعمادات بها ورئاسات الأقسام أي فائدة، وهكذا سنشهد بالتوالي اختفاء تلك العمادات من الوجود، وتلاشي الأقسام كذلك، في الوقت الذي تنهض فيه عديد من دول الإقليم في مختلف الدراسات الإنسانية، التي وُصفت اختزالا لها من قبل الجامعة بالعلوم النظرية، وكأن الأمر مقتصر على مذكرة هنا وكتاب هناك يقرؤه الطالب وينتهي.

حقا كم هو مؤلم أن يرى مثلي هذا التسارع في السقوط ودون أن يجد من يوقفه، وللأسف الأمر منوط بتلك اللحظة التي قدمنا فيها تنازلا كبيرا من أجل توطين التعليم، فجعلنا غاية التوطين مقدمة على غاية الكفاءة والقدرة، وألحق بالتعليم العام كل من امتلك درجة البكالوريوس، دون النظر إلى صلاحية تخصصه من عدمها، حتى إنه تم توظيف خريجي العلوم السياسية والاقتصاد والفيزياء النووية والآثار معلمين في المرحلة الابتدائية، ودون أن يكون لهم أي علاقة بالتعليم، والأدهى والأمر أنه قد تم تعيينهم معلمين في المرحلة الأكثر حساسية من حيث القيمة والمعيار، لكن القصة بالنسبة لهم كانت محصورة في تدريس الحروف الهجائية، وتعليم قصار السور، ولا يحتاج ذلك إلى عناء وتخصص، وهكذا نشأ جيل وراءه جيل، وتنامى في الذهن مرة بعد مرة سهولة تدريس المرحلة الابتدائية، ثم سهولة التعليم العام، وصولا إلى هامشية العلوم الإنسانية في مقابل العلوم التطبيقية، التي يُخص دارسوها بعين الاهتمام ضمن ثنايا مجتمعنا ونسقنا الذهني.

أشير إلى أن الشعوب الحية وعالمها المتقدم، الذي نتشدق برغبتنا في اللحاق بهم، قد أولوا هذه العلوم الإنسانية، التي يتم تهميشها يوما بعد يوم في ذهننا الأكاديمي، جل اهتمامهم العلمي والبحثي، لكونها تَدرُس حالات الإنسان وتعمل على فهمه باستخدام الوسائل المنهجية، وبالتالي فما أكثر الطلاب الدارسين في كبرى جامعاتها للأدب واللسانيات، والفلسفة ودراسة الأديان، والقانون والتشريع، والموسيقى والفنون، والتاريخ والدراسات الشرقية وعلم الآثار.

بل واقترحت مؤشرات العلوم الإنسانية، التي كُشف النقاب عنها عام 2009 من قبل الأكاديمية الأمريكية للعلوم والفنون، فكرة تعميم تعليم العلوم الإنسانية على جميع الطلاب، بمعنى أن يتوجب على كل طالب أن يدرس العلوم الإنسانية إلى جانب تخصصه. وكانت جامعة شيكاغو وكولمبيا من أوائل من فرض دراسة الفلسفة والتاريخ والأدب والفنون على جميع الطلاب.

فهل يسعنا أن نكون مثلهم على أقل تقدير؟ وأن ندرك أن العلم رحم بين أهله كما قال الأولون، وأنه قائم على ذلك التفاعل المحسوس بين الطالب وأستاذه، ومرتكز على ما يتولد بينهما من أفكار وآراء حية بحياة أرواحهما، ومتفاعلة بمعادلة كيمياء الجسد، التي تظهر تجلياتها حال صدور المعرفة من الشيخ الأستاذ ودرجة قبولها وفهمها ومن ثم نَقشها في ذهن الطالب المتوثب. ولعمري فهذه هي الجامعة التي نبحث عنها والله المستعان.

zash113@