فيصل الشمري

فرنسا أخطأت مرتين.. فهل تتعلم الدرس؟

الاثنين - 30 نوفمبر 2020

Mon - 30 Nov 2020

هناك مقولة أمريكية تقول «تخدعني مرة عار عليك. تخدعني مرتين، عار علي». وهذا ما يمكن وصفه على الحالة الفرنسية، التي كانت ولا تزال في نظر العالم منارة للعلم والحضارة وصوت الحرية. عندما نرى ما يحدث اليوم من تخبط في الموقف الفرنسي الرسمي، يراودنا السؤال: هل تعي الحكومة الفرنسية الحالية هذا الإرث الوطني؟

تصاعدت أعمال العنف والكراهية في العالم خلال فترة الثمانينات والتسعينات، ثم بلغت إلى مرحلة الانفجار العظيم مع تفجيرات 11 سبتمبر المؤلمة. هذا التصاعد لم يكن إلا امتدادا لسلسلة الصراعات الأيديولوجية والخطابات المتطرفة التي بدأت منذ وجود الإنسان على وجه الأرض، تتفاقم مرة وتخدمها لغة العقل والحوار مرات عديدة. ولست هنا بمعرض التفصيل حول منشأ الخلاف التاريخي ولا النزاعات بين أتباع الأديان، ولا نشوء الخطابات المتطرفة، ولكن ما يهمني هو الوصول عند النقطة التي أدرك فيها العالم أهمية الحوار والمشاركة والوصل فيما بينهم.

بعد سلسلة من الحروب وحمامات الدم التي سالت في العالم بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، توصل العالم إلى اللحظة المهمة وهي لحظة السلام ووقف آلة الحرب، اتخذ العالم هذه الخطوة بهزيمة قوى الشر وردع الخطاب المتطرف، ونشأت أجيال تريد الخير والوئام، وكان العالم الإسلامي والمسلمون في أوروبا عاملا مهما في بناء العالم الجديد.

لا يمكن إنكار الدور الذي قام به المسلمون المهاجرون إلى أوروبا في القتال جنبا إلى جنب مع قوى التحالف في الحرب العالمية الثانية. من خلال كتب التاريخ، قرأنا أن المسلمين دافعوا مع زملائهم في الكتائب العسكرية عن بريطانيا العظمى، وانضموا تحت لواء القائد شارل ديغول في تحرير باريس من براثن الجيش النازي وهزيمة هتلر، وفي بولندا وبعض الدول الأوروبية الشرقية، استضافوا عائلات يهودية وأنقذوا عديدين من محرقة الهولوكوست، وعديد من القصص العظيمة حول مشاركة الجاليات الإسلامية في بناء أوطانهم.

لم يكن لهذا العالم أن يتجاوز مرحلة الحرب إلا بالشراكة الجماعية والوقفة الحقيقية من كل بني البشر في تحقيق هذه الإرادة. ويظهر لنا بين الحين والآخر من يريد أن يرجع تلك الحروب وحمامات الدماء إلى ما كانت عليه، فهل يُعقل بنا أن ننجر خلف تلك الأصوات؟

أخطأت فرنسا مرتين؛ الأولى عندما رفعت شعار الحرية المطلقة وبلا ضوابط في الخطاب وحرية الأفراد، ومكنت المتطرفين من المنابر بذريعة الحرية، لا يمكن لأحد أن يعارض حرية التعبير ولا حرية الأديان، لكن استخدامها في غير محلها خطأ، فلا يمكن أن أقبل بشخص ينتهك حرمة ديني ومعتقدي، أو أن يشتم أمي أو أبي بدعوى حرية الكلمة. للحرية حدود تقف عند انتهاك حريات الآخرين، ويتساوى الجميع تحت مظلة القانون، وعندما يفشل القانون في عمله، وتفشل الحكومة في حماية المعنى الكبير للحريات، فإن الكلمة تصبح وبالا وأداة لأفعال متطرفة يقوم بها الراديكاليون وأعداء السلام.

صوت العقل يقول: لا يمكن أن تنال رسوم مهينة وشنيعة من رسولنا الكريم، ولا من كافة الأنبياء ولا الأديان، فمهما كان هذا التطاول فإنه لن يقلل من شأن الإسلام ولا المسلمين، ولكن صوت العقل أيضا يقول: يجب أن تحمي الدولة وبسلطة القانون حرية الأديان من ألا تنتهك، وأن تضع الحد الفاصل بين حرية التعبير والاستهزاء من الآخرين، وأن تعاقب كل من يريد أن يشوّه هذه الحرية، وهو للأسف ما لم نره في الحالة الفرنسية.

الخطأ الثاني امتداد للأول، وهو أن فرنسا فتحت أبوابها لجميع الأصوات المتطرفة بذريعة حرية التعبير، واستضافت مدنها مقرات جماعة الإخوان المسلمين التي صنفتها دول عديدة على أنها جماعة متطرفة تتخذ الدين الإسلامي الحنيف ذريعة لها في أهدافها، واستغل الإخوان هذه الحرية في بث السموم والكراهية بين المجتمع الواحد، هم من يقف خلف التحريض ضد الحكومة الفرنسية، ويلبس قادتها لباس العلمانية والتطوّر أمام الحكومة، ويناقضون كل ما تنص عليه العلمانية في الخفاء، بل يطعنون زورا في الحكومة والتشريعات الفرنسية، ويفرضون عليهم الانغلاق وعدم التفاعل مع المجتمع المحلي، هم من يتحمل دم المدرس الفرنسي الذي قُتل بسبب عرض الرسوم المسيئة.

حذر الشيخ الدكتور محمد العيسى الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، وهو على رأس منظمة تحتضن كل المجتمعات المسلمة وتعبر عن المسلمين حول العالم، مرارا وتكرارا من بؤر الجماعات المتطرفة، التي تلبس لباس التقوى في العلن، وتطعن الحكومات والدول في الخفاء، ومنها جماعة الإخوان المسلمين التي تستغل الجاليات الإسلامية في أوروبا ومنها فرنسا للوصول لغاياتها السياسية.

ونبّه العيسى المسلمين في فرنسا من الانغلاق والتحزب في الجمعيات والمدارس والمساجد، وعدم التفاعل مع مجتمعاتهم المحلية، فهم فرنسيون بالمقام الأول ولهم في بلادهم ما لغيرهم، وعليهم أن يتحلوا بالعقل والحكمة في مواجهة التطرف والأصوات المعادية لهم. ولكن للأسف تأبى جماعة الإخوان المسلمين إلا أن تستغل موقفهم، وتزيد من الكراهية والعداء تجاه الآخرين.

كما حذّر العيسى أيضا وغيره من العلماء المسلمين (1200 شخص اجتمعت كلمتهم جميعا في «وثيقة مكة») من خطورة جماعات الإسلام السياسي، وكان يجب على الحكومة الفرنسية الاستماع لرابطة العالم الإسلامي، وعدم التعامل مع الإخوان المسلمين.

هل تستوعب فرنسا الدرس؟ وهل يتعلم الرئيس إيمانويل ماكرون من المثل الأمريكي فلا يخطئ مرة ثالثة؟ هذا ما ستحدده الأيام المقبلة.

mr_alshammeri@