مها الحريب

خواطر نفسية

الاثنين - 16 نوفمبر 2020

Mon - 16 Nov 2020

في المجلس نفسه تجاورت السيدتان (س، ن)، كلتاهما تعاني من مرض موجع استولى على حياتهما، وأصبح جزءا لا يتجزأ منها، (س) تعاني من مرض مناعي مؤلم كدر عليها صفو حياتها، يتعاطف الجميع معها، يدعون لها بحب ولطف، يدركون أن معاناتها صعبة، حين يتحدثون عنها يكنون لها التقدير، يعذرونها، يقدمونها دوما في المجلس، فمرضها العضوي مفهوم ومقبول بالنسبة لهم. على النقيض في الطرف الآخر تجلس (ن) منزوية، جاءت على مضض تحت إلحاح والدتها، (ن) تعاني من مرض نفسي، نغص عليها حياتها، لم تعد تلك الفتاة المحبة للحياة، التي تتألق عيناها فرحا في كل لقاء أسري، ذلك اللقاء الذي كانت تنتظره كل شهر لتلتقي بقريباتها.

أصبحت شاحبة الوجه، فقدت كثيرا من وزنها، تعاني الأمرّين لتصنع ضحكة لا تشعر بها، تتهامس السيدات سرا فيما بينهن: ما الذي حدث لها؟! وقد يجهرن بالقول لوالدتها: ما الذي أصاب ابنتك.. أصبحت نفسية، تتداخل الأصوات للشكوى من رفضها الخروج وتغيرها، من إهمالها نفسها ومن مزاجها الحزين دائما، يختمون حديثهن عنها بعبارة (الله يشفيها ولا يبلانا)، لا أحد يدرك حجم الصراع الذي يدور في عقلها، تلك الأفكار التي تتزاحم وتجعلها تحاول الهروب منها وكأنها قدر لا مفر منه، حرب ضروس لا هدنة فيها، تتمنى لو كان للأفكار زر إيقاف فتستخدمه لتهنئ بنومها وطعامها، ولتستعيد بريق حياتها الذي انطفأ، لا أحد يتفهمها، حاولت كثيرا الذهاب إلى الطبيب، وصدها خوف والدتها من أن يعرف الأقرباء أن ابنتها تذهب إلى الطبيب النفسي.

كانت تردد عليها «ما فيك إلا العافية، تعوذي من الشيطان وستصبحين أفضل»، كانت الفكرة البديلة أن تذهب إلى أحد الأطباء الشعبيين، ففكرة أن تكون مصابة بالعين مقبولة جدا في ثقافتنا، ولا يمكن أن تخجل والدة (ن) من ذكر هذا أمام قريباتها.

(ن، س) حالتان من حالات عديدة في مجتمعنا، يتعاطف الناس ويقدرون من لديه مرض عضوي، فيما ينفرون ممن لديه مرض نفسي أو قد يعتبرونه يبالغ.

في ظنهم أن المرض العضوي حقيقة وأشد وطأة من الأمراض النفسية، والواقع أن كليهما مؤلم ويترك في النفس آثارا عميقة، لكن نظرة الآخرين إلى المرض العضوي تخفف من بعض آثاره، أما من يعانون من الأمراض النفسية فيحاربون على جبهات عديدة: لوم الآخرين لهم بسبب تغيرهم غير المبرر، والتلويح بفكرة أن ما يشعرون به نتيجة حتميه لقلة تدينهم، وصراع الرغبة بين الذهاب للعيادة النفسية والخوف من كلام الناس فيما لو علموا.

كل هذا قد يهون أمام الجبهة الكبرى؛ حرب المريض النفسي المستمرة مع نفسه، مع أفكاره أو مع سلوكياته القهرية التي لا يمكنه إيقافها، أو من خوفه من المجهول، ذلك الشعور الذي يجثم على صدره ويثير فزعه في أكثر الأوقات سعادة عند الآخرين أو أمور لا يتسع المجال لذكرها من معاناتهم.

كنت أستبشر كثيرا بتلك الحملات التي أراها في مواقع التواصل الاجتماعي عن التوعية بالأمراض النفسية، وحث الناس على تقبل الأمراض النفسية كما يتقبلون الأمراض العضوية، ودعم من يصاب بها، حتى اكتشفت أن معظم تلك الحملات لا تتجاوز تلك البرامج، وأن الواقع أشد مرارة وقسوة.

كنت أتساءل: ماذا لو خصصت وزارة الصحة جهدا أكبر للتوعية بقبول المرض النفسي، خاصة أن حملاتهم التوعوية رائعة، وحبكتها مفهومة وتناسب جميع شرائح المجتمع، ربما قد تساعد الاستعانة ببعض المؤثرين للمشاركة في تلك الحملات، فيسهموا في سرعة انتشارها، أتساءل ولعلي أجد من يجيب.

ختاما، لكل من يقرأ كلماتي: رفقا بكل من يعاني، فلا يمكن تصور حجم معاناتهم، تلك الجهود القاسية التي يبذلونها لينهضوا من جديد، سعيهم الحثيث لإسكات تلك الأفكار المؤلمة، توقفوا عن نبزهم بألقاب مزعجة أو الإلحاح عليهم بكثرة الأسئلة حول ما يحصل معهم أو تلك العبارات السخيفة (هناك من هو أسوأ منك)، تلطفوا معهم، قدروهم، احترموهم، فالمرض النفسي مؤلم جدا كشدة المرض العضوي أو أسوأ، والروح تمرض كما يمرض الجسد.

@Maha_m4