فهد عبدالله

النزاهة الذهنية

الخميس - 12 نوفمبر 2020

Thu - 12 Nov 2020

من أكثر المواقف التي - في الحقيقة - أجدها تأسرني محبة في صاحبها وتعبر عن نزاهة ذهنية مرتفعة؛ هي الانتقال السلس للرأي الآخر عندما تتضح معطياته، وتكون الحجة فيه بالغة عن المعطيات القديمة التي يمتلكها، أو بعبارة أخرى لا يتمسك بالمعلومات والمعطيات القديمة إذا تبين له صحة المعلومات والمعطيات الجديدة. وخلف هذه الصفة الظاهرة معان باطنة عميقة، تدور حول الارتباط بمعاني الحق والصحة والصواب، ومن مظاهرها المتعددة القراءة المتأنية والإنصات الجميل للآخر، فضلا عن الإنصاف في النظر لمن كان في قوائم الأصدقاء والخصوم أو الأعداء.

دعوني أشارككم لماذا هذه الصفة تأسرني في صاحبها، وقد أجد من يرافقني في هذه المحبة أو على الأقل تقيمون لي العذر بأن جعلت هذا الحيز الالكتروني الصغير مخصصا لهم: عندما أتأملها يرتبط في عقلي مباشرة عن هذه الصفة الأنيقة موقف الصحابي الجليل الطفيل بن عمرو الدوسي، رضي الله عنه، عندما قدم إلى مكة واضعا الكرسف يسد فيه أذنيه، بعد أن تلقى الدعاية السلبية المتضخمة من رجالات قريش في ذلك الحين بأن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ما هو إلا ضرب من ضروب السحر، يفرق بين المرء وزوجه، وبعد ذلك حصلت تلك المحادثة النفسية المتوهجة العظيمة التي خاطب الطفيل فيها نفسه، التي تعبر عن النزاهة الذهنية المرتفعة (فقلت في نفسي وا ثكل أمي، إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى علي الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته)، وكان بعد ذلك إسلامه وإسلام قبيلته فيما بعد، الشاهد هنا (إن كان حسنا قبلته وإن كان قبيحا تركته).

وإسقاطات هذه العقلية المميزة في طريقة التناول للأمور لا تقف عند مجرد التغيير السلس من المعطيات القديمة الخاطئة أو الأقل صحة إلى المعطيات الجديدة الصحيحة أو الأكثر صحة فحسب، بل يمتد أثرها مهيمنا على كثير من الأمور الشخصية والمجتمعية الإيجابية، سأذكر بعضا منها:

- من رأى ليس كمن سمع، وأمواج الإشاعات ستصدم بتلك الصخور الحيدية التي تكونت مع الزمن في نفس صاحبها من خلال منهجية التأكد من المعلومات، وعدم اتخاذ القرارات أو تصدير الآراء بناء على المعلومات الرخوة، وقد يجد نفسه بين حين وآخر يملأ الفراغات التي تسببها تلك المعلومات الناقصة، لكنه سرعان ما يتنبه بأن الرأي الذي به ثلمة لم يتكون إلا من المعلومات التي بها نقص.

- وجود معلومة أو رأي رائج ليس بالضرورة له دلالة على صحة تلك المعلومة أو الرأي، وكذلك ينطبق هذا الحال على الآراء والمعلومات التي مثلا قالها شخصية اعتبارية أو مشهورة أو تناقلت بين أصحاب الحضور المجتمعي، نشر المعلومة والرأي أو ارتباطها بالأسماء البارزة ليس بالضرورة دلالة على صحة تلك المعلومات والآراء، العبرة لدى صاحب النزاهة الذهنية المرتفعة بالمعلومة نفسها والمعطيات التي حولها، بقطع النظر عن أسئلة: من قال ذلك؟ أو من أين أتت؟ وستكون الأسئلة الشاغلة للفكر مقولبة حول لماذا وكيف.

- مهما كان الدور الذي يمارسه الإنسان مثل التعليم أو الإدارة أو الأبوة والأمومة وغيرها من الأدوار الحياتية المختلفة لا يعني ذلك أبدا الاعتداد بالنفس في الرأي.

بل تجد في قمة التوهج في ممارسة الأدوار المختلفة هناك قدرة لصاحب النزاهة الذهنية المرتفعة على أن ينصت بكل إتقان ويناقش بكل هدوء، ويغير مدخلات المعلومات والمعطيات بكل سهولة.

أثر النزاهة الإيجابية المرتفعة ليس محصورا في الصعيد الشخصي فحسب، بل يمتد إلى المجتمعات بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، فمثلا انظر إلى العنصرية؛ ما هي إلا تحيزات من أصحابها، سواء كانت للون أو عرق أو فكرة، ووجود هذه الصفة وتكاثرها يتناقضان تماما مع تكوين العقلية النزيهة، انظر مثلا إلى الفساد بجميع أشكاله ولما فيه من ظلم وتجاوز وتعد، يتناقض شكلا ومضمونا مع محددات العقلية النزيهة، التي في جذورها ارتباط وثيق للحق والصحة والصواب.. وهكذا دواليك.

fahdabdullahz@