فرحان الذعذاع

أمانة المنابر

الاحد - 01 نوفمبر 2020

Sun - 01 Nov 2020

لم يمر على البشرية منذ أن قدر الله وجودها أن يطلع بعضها على أحوال بعض كما يحدث في هذا الزمن التقني التواصلي، ليس الأحوال فحسب، إنما الخصوصيات أيضا، بل أدق الخصوصيات، حتى بتنا نرى غرف نوم بعض المشهورين والمشهورات، وما يلبسون وما يأكلون، وكيف يتعاملون!

بفطرة الإنسان وطبيعته أنه يعقد المقارنات، وعادة نتائج هذه المقارنات هي ما يحدد مستوى الرضا عن الحال من عدمه.

ما كان يسبب سعادة لمتوسط الحال بالأمس لم يعد كذلك اليوم، بعد أن أصبح يشاهد يوميات الآخرين من المترفين والمستترفين!

وما كان يسد حاجة الفقير لم يعد كذلك بعد أن شاهد أقرانه من ميسوري الحال في وسائل التواصل، فما كان حلما بالأمس أصبح سببا للتعاسة عند المقارنة مع الآخرين.

القناعة تنتزع من هذا الجيل انتزاعا بسبب وسائل التواصل وما يشاهدون فيها من أحوال للمجتمع القريب والبعيد.

كيف يعيشون وماذا يأكلون ويلبسون! بل كيف يتعاملون مع بعضهم، وحين المقارنة تبدأ صراعات النفس وما علم هذا المقارِن أن كثيرا مما يشاهد من رقي بالتعامل والسلوك ما هو إلا صناعة مخرج، وما يلمس من سعادة لدى من يشاهدهم إنما هي سيناريوهات مؤلف، ربما كان خلفها أحزان وتعاسة عند البعض لا يمكنه تحملها.

هذه المنابر التي تمطرنا ليل نهار بمقاطع صوتية ومرئية ومكتوبة، كانت محصورة على أناس مخصصين بسبب وظائفهم أو طبيعة أعمالهم، أو مشايخ يلقون محاضراتهم ودروسهم وخطبهم أو مسؤولين يوجهون المجتمع بناء على مواقعهم، وكانت العامة تتلقى كثيرا من أحكامها ومعلوماتها من هذه المنابر، بل حتى بعض سلوكياتها أيضا، تأثرا بهيئة مقدم أو فكرة وعبارة متحدث.

حين يتذكر الإنسان أن كل ما يخطه بيمينه أو تنطق به شفتاه وما يسجله من مادة مرئية أو مسموعة ستحتفظ به أدوات هذا العصر، وسيعاد بثه بين فترة وأخرى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ فهذا يحمّل كل صاحب منبر مهما كان نوعه ومستواه العلمي والمعرفي والوظيفي أو المجتمعي مسؤولية مضاعفة، إما وقف من الحسنات أو السيئات لن يمحوه امتداد الزمن.

ولنا في مواقف وكلمات من سبقونا آية وعبرة، وإذ اعترى النقل عنهم شيء من التحريف أو الخطأ فالمؤكد أن جيلنا لن يعتريه شيء من هذا، إذ ستكون كل الكلمات والأفعال موثقة صوتا وصورة، عندما نتذكر هذا وأن هذا العصر الذي نعيشه سيحتفظ بكل ما نسجله، وسيكون تحت الطلب متى شاء المشاهد أو المستمع أو القارئ؛ عند هذا يجب أن نستشعر عظمة هذه المنابر التي أضاعها الناس وأودع فيها البعض ما يسوؤهم.

كانت المنابر حكرا على فئات لا يتاح لغيرها اعتلاؤها، واليوم أصبح لكل منا منبره الخاص الذي يستطيع من خلاله أن يخاطب به أسرته وقبيلته ومجتمعه ومحيطه، بل يستطيع أن يخاطب العالم أجمع صوتا وصورة وكتابة.

فليتق الله كل من منبره، وليودع في ذاكرة الزمن ما يسره (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).

كلام من منبر ابن القيم رحمه الله «لو كشف الله الغطاء لعبده.. وأظهر له كيف يدبر الله له أموره.. وكيف أن الله أكثر حرصا على مصلحة العبد من العبد نفسه.. وأنه أرحم به من أمه.. لذاب قلب العبد محبة لله ولتقطع قلبه شكرا لله». والله من وراء القصد.

_shaas_@