فاتنة عبيد

عين العدسات وما خلفها

السبت - 31 أكتوبر 2020

Sat - 31 Oct 2020

منذ أن تطورت التكنولوجيا وبدأ الإنترنت يدخل كل بيت وكل جوال وكل حياة، أصبحت القلوب في انكسار مستمر وقهر دائم أو حزن مخفي أمام الآخرين، ظاهر أمام الأنفس.

انتهت معادلة النقص وبدأت الأسطورة الشهيرة المكللة بالكمال وأن «حياة الآخرين أفضل بمئات المرات من حياتي وحياة من هم دوني»، والحكم بذلك بدأ من عدسة كاميرا لا تقاس سوى بأقل من حجم الظفر وبأسطر لا تكتب سوى بثوان معدودة.

المسألة ليست سهلة وليست بالحجم الذي يستصغره الآخرون، إنما هي «انتكاسة» لكل قلب ولكل روح ولكل جسد يحارب من أجل أن لا يسقط.

الأرواح التي خلف الشاشات جسدت للآخرين، معنى مختلف تماما عما نحن عليه، ألغت معنى الإخفاق والمحاولة وبدأت برسم إيحاءات متكاملة وملونة ومزدهرة عن الحياة «الوردية» التي يعيشونها أمام الكاميرات ويخفونها أمام أرواحهم وأسقف منازلهم.

كثيرا ما نسمع عن حالات اكتئاب وأمراض نفسية وأمراض قد لا نعرف مصدرها، كثيرا ما نشاهد أرواحا مستلقية على حافة الطرقات، تندب الحظوظ وتلعن التخطيط وتكره الحياة وتريد القضاء على الأيام، وكل ذلك حدث بسبب إظهار الكمال والحياة الخالية من المصاعب والمشاكل وغيرها، وبسبب مقارنة أنفسنا بغيرنا، وتحقير ذواتنا أيضا.

في كل مرة وفي كل لحظة أحاول جاهدة تذكير نفسي وغيري بأن الحياة لا تعطي أحدا صفة الكمال، وأن لا كمال بها مهما صعدت بك الأزمان وتبدل بك الحال.

لعلي أستشهد بحديث قد يكون بعيدا عن المقصد لكنه قريب المعنى، حينما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة «أكرمي كريمك يا عائشة فإنها ما نفرت من قوم وعادت إليهم».

هل الحديث يقتضي فقط المأكل والمشرب؟ أم كل ما عليها وكل ما فيها حتى النعم المغطاة، ومنها الستر وسلامة القلب والصدر!

وصلنا إلى زمان كل منا يدعى الكمال والمثالية، والبعض أصبح ينكر النعمة ويحقرها لاعتقاده أن الآخرين أكمل منه جاها ومنصبا وثروة وحياة.

كل ذلك حدث بسبب رفض استشعار «الحياة» وتقبل أفكار ومعتقدات غريبة، مثل ضمان الحياة وتأمين الأرواح، والدفع المسبق، وتأجير الضرورات ووضع الخطط المستقبلية، وشراء اللحظة من أجل استثمار الغد، كلها قد تكون حاجة لكنها ليست إلزامية وضرورية لكي تستمر الحياة.

نحن نراقب الآخرين وننظر إلى محيط حياتهم وندخل إلى عالمهم ونشعر أنهم بأفضل الحال، وكل ذلك بسبب إنكارهم لحقيقة أن «لا كامل سوى الله سبحانه وتعالى» يجعلونك ترى ما يريدونه فحسب ويخفون كل أمر قد يظهر العكس.

محاولة الرضا بعد مشاهدتهم ومقارنة أنفسنا لذواتهم قد تكون قاسية جدا ومتعبة للنفس والروح، لأن دائرة المقارنات عميقة وتشمل جميع أنواع المتاهات التي تقتضي برؤية الناس كاملين بجميع نواحي الحياة، وعلى العكس تجعلك ترى نفسك ناقصا بجميع جوانب الحياة.

أخطاؤهم وثغراتهم وإخفاقاتهم المستمرة يخشون أن تظهر أمام أحد، رهبة من أن تسقط أقنعتهم أمام البشر، يعظمون أخطاءك ليحقروك أمام ذاتك، وينسون قاعدة أن الخطأ موجود وهو قبيل الإنسان ما دام يعيش ويتنفس، والتعلم يأتي من الوقوع بالخطأ ومن ثم الصواب وإن تعاظم الذنب والخطأ.

كل ما فيك هو رزق لك ليس لغيرك، ولكل ما هو لغيرك ليس لك، لأن الله بعلمه السابق وعلمه الحاضر يعلم ما هو خير لروحك وما هو الشر لحياتك، فاختر لك ما يناسبك وليس ما يناسب غيرك.

لندخل بسبيل المقارنات قليلا، لنقرب المعنى، مقارنتك بصديقتك بأنها أجمل وأسعد وبأنك أقل جمالا وأكثر تعاسة هو أمر مناقض للغاية التي ولدتِ لها، لأن الله لم يجعلك تخطين على الأرض من أجل أن تكوني أفضل بالشكل، أنت هنا من أجل رسالة خص الله بها الأنبياء ومن ثم توارثتها الأقوام. مقارنتك بحياة صديقك وبحياتك الناقصة أيضا أمر مخالف للرضا ومتبوع بكسرة نفس لأن لا أحد منكم يعلم ما المخبأ له.

لا تقارن حياتك بهم ولا تبحث عن الكمال بعدساتهم، بل ابحث عنها بضميرك وفكرك الذي يجعلك في كل مرة تستشعر معنى اسمه سبحانه وتعالى (العادل). العدل هو صفة من صفات الله سبحانه وتعالى وحاشا الله أن لا يعدل بين عباده.

أخيرا، كل منا لن يموت دون أن يستوفي رزقه، لا تقارن حياتك بالآخرين ولا تبحث عن الكمال خلف وسائل وهمية لا صحة لها، أنت بدنيا، لا بأس أن تبكي قليلا، وتنكسر وتجرح وتسقط وتنهض وتحيا مرة أخرى، لا بأس أن ترتكب الخطأ وتقع بالذنب وترتكب الحماقات لكي تتعلم، وقد يطول المشوار لكنك ستتعلم منه، لذلك في كل مرة تذكر أن حياتك هي لك أنت وحدك لا تقارنها بحياة غيرك.