بندر الزهراني

السابع المميت عند هواة التصنيف!

السبت - 31 أكتوبر 2020

Sat - 31 Oct 2020

في ثقافتنا الشعبية البسيطة، إذا تذكر الناس بعض قصص وأخبار الموتى قديما قالوا «مات فلان بالسابع»، فإذا سألت: وما السابع؟ قالوا: مرض يصيب الإنسان فيموت به في غضون سبعة أيام، وقد يكون هذا المرض بسيطا، كزائدة دودية يمكن استئصالها في دقائق معدودة لولا الجهل والفقر وقلة الحيلة آنذاك، وقد يكون مرضا خطيرا، كجلطة في القلب أو في الدماغ فيعجز عن علاجها اليوم أمهر الأطباء، وبغض النظر عن اختلاف التشخيص الطبي، واسم الحالة وعلاجها، لا يزال السابع حاضرا بالصورة والمعنى، لكن هذه المرة في سلوكياتنا الأكاديمية وممارساتنا الإدارية.

سأحدثكم اليوم عن سابع مميت، أصاب بعض جامعاتنا ومؤسساتنا التعليمية، سابع نحن من اختاره، وسعى للوصول إليه، بل وندفع الملايين للإصابة به، تخيلوا قوما يشترون المرض لأنفسهم، يتنافسون ويتسابقون إليه، وإذا أصيبوا به تفاخروا وتمايزوا بينهم! هؤلاء أقل ما يقال عنهم إنهم غافلون إداريا أو مستغفلون! وما سأحدثكم عنه ليس حديث نفس، ولا خيالا أو أفكارا حالمة، ولا جلدا للذات أو تهويلا للموقف، بل هو واقع وحقيقة!

في اليومين الماضيين ظهرت النشرة السنوية لتصنيف أفضل الجامعات العالمية الصادرة عن «يو إس نيوز»، وعلى ضوء نتائجها نشرت الجامعات المحلية مراكزها في التصنيف، فعلى سبيل المثال نشرت جامعة الملك عبدالعزيز على حسابها الرسمي في «تويتر» بشيء من الزهو والفخر مركزها التصنيفي الجديد، حيث نالت المرتبة الثانية والأربعين، وانهالت عليها الثناءات والتبريكات من أعضاء هيئة التدريس العاملين فيها، وممن يعملون في غيرها، بل ومن كل مكان، حتى أنا حدثتني نفسي بالمباركة! على الأقل لئلا أكون عاقا لهذه الجامعة العريقة، وهذا الشعور هو أدنى مراتب الوفاء.

في الواقع هناك ثلاثة عشر معيارا يعتمد عليها تصنيف «يو إس نيوز»، كلها متعلقة بالأبحاث المنشورة ضمن شبكة العلوم التابعة لشركة كلاريفيت، وهي شركة ربحية، وهذه المعايير ليست لها علاقة بالبرامج العلمية أو المناهج الدراسية أو المباني والوسائل التعليمية، ولا حتى سمعة أعضاء هيئة التدريس، ولذلك لو قورنت نتائج هذا التصنيف مع نتائج تصنيف آخر لوُجدت اختلافات كثيرة، فمثلا جامعة الملك عبدالعزيز هي في المرتبة الثانية والأربعين في هذا التصنيف، بينما حلت في المرتبة الثالثة والأربعين بعد المئة في تصنيف «كيو إس»، وهذا يرجع لمدى دقة البيانات واختلاف طبيعة المعايير بين التصنيفين.

وإذا ما تأملنا في النشرة ودخلنا في تفصيلاتها الدقيقة، فإننا سنجد قسم الكيمياء بالجامعة قد حل في المركز السابع عالميا، متقدما على عديد من أقسام الكيمياء في جامعات أمريكية ذات شهرة عالمية واسعة، منها على سبيل الاستشهاد لا الحصر: قسم الكيمياء بجامعة كولومبيا الذي جاء في المرتبة الثانية والأربعين، مع العلم أن «مارتن تشالفي» الحائز من قبل جائزة نوبل يعمل إلى اليوم في هذا القسم العريق! وكذلك معهد ماكس بلانك وجامعة هومبولت الألمانية حيث تعمل «إيمانويل شاربنتييه» الفائزة بجائزة نوبل في الكيمياء لهذا العام، لم يظهرا في التصنيف!

ليست الكيمياء وحدها من بلغت السابع، بل قسم الرياضيات هو الآخر جاء في إحدى السنوات في المركز السابع، متقدما على قسم الرياضيات بجامعة برينستون ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا حيث «جون ناش» يعمل، وناش هذا لمن لا يعرفه هو العقل الجميل وبطل آخر من أبطال نوبل! ولم يقتصر السباق والتنافس على الكيمياء والرياضيات فحسب، بل هناك أقسام أخرى في الجامعة من كليات العلوم والهندسة وعلوم الحاسبات اقتربت كثيرا من السابع في هذا العام!

تعالوا بهدوء لنتساءل: ما سر المركز السابع؟ وكيف تقدمنا في الكيمياء كل هذا التقدم الهائل؟ وهل فعلا تفوقنا عليهم وعلى جامعاتهم! أم إن التقدم كان تقدما تصنيفيا فحسب! وإذا كان كذلك فما الفائدة منه؟ وما هو الثمن أو كم كان؟! لن نجد لدى مسؤولي الجامعات إجابات مقنعة أو مبررات معقولة! فلا «جنيفر داودنا» ولا «جورج سمث» ولا «ستانلي وتنقهام» يعملون في قسم الكيمياء هذا!

وكيف تقدمنا عليهم في الرياضيات وليس معنا أو بيننا «بول ميلقروم» ولا «تشارلز فيفرمان»؟! بالله عليكم كيف حدث هذا؟ حدثونا بالعقل والمنطق كي نتقبل منكم، بل كي نفرح معكم، فنحن لا ننتقد أعمالكم لأننا لا نريدكم، أو بيننا وبينكم عداوة أو بغضاء، لا أبدا، نحن نفعل هذا حبا للجامعة، وإيمانا بطاقاتنا البشرية، وثقة في قدراتنا الإبداعية، ولجميل نحمله في أعناقنا لهذا الوطن المعطاء ولقيادته الرشيدة، وهذا الشعور في ظني هو أعلى مراتب الوفاء.

مع الأسف نحن لا نتقدم إلا تصنيفيا فحسب، أي على الورق لا أكثر، ولكننا على أرض الواقع نتأخر، بل نموت ببطء، لماذا؟ لأن هذه الطرق الغائية التي تسلكها جامعاتنا طرق خاطئة، ونحن الآن بحاجة ماسة إلى جهة رسمية عليا تقول لهؤلاء المسؤولين ولمن يصفق لهم: توقفوا، وكفوا أيدكم عن مثل هذه البرامج، ودعونا نعد للمسار الصحيح قبل فوات الاوان، أعطونا باحثا ينشر بحثا واحدا بمجهوده وأفكاره هو، وخذوا أولئك الذين نشروا وينشرون آلاف الأبحاث تحت أسماء وبرامج تعاونية كذابة، ليس لهم غاية منها إلا التصنيفات ومزيد من البدلات، وهذا مبلغهم من السابع!

drbmaz@