مشعل أباالودع

الدهشة لا تدوم

الثلاثاء - 13 أكتوبر 2020

Tue - 13 Oct 2020

من منا لا يتذكر اللحظة التي وقف فيها متصلبا أمام حروف اللغة، وهو في أول يوم دراسي، وقفنا مندهشين أمام تخطيط يدوي بدا لنا تعجيزيا ومستحيلا ساعتها، ظننا حينها أن عملية الكتابة رحلة كاملة وتحد يصعب علينا إنجازه؟

من لا يتذكر أول مرة وطئت قدماه على رمال البحر، فوقف مشدوها أمام نغمات أمواجه وطاقة الأجواء بالشاطئ الطويل؟

من لا يتذكر أول لقاء له مع ذلك الحبيب الغائب، أولى النظرات العذراء، وأول الوعود وكيف بدا قادرا على تقديم أكبر التضحيات والتنازلات؟

من لا يتذكر كيف أنشد عند دخوله أسوار مدينة ما لأول مرة، وكيف شعر أنها احتضنته وأشرقت فيه؟

من لا يتذكر أول تشجيع تلقاه، وأول راتب حصل عليه، وأول نجاح حققه؟

هي نفسها الدهشة الأولى التي تتقدم كل الأشياء التي نحصل عليها وكل الأحداث التي نعيشها، ونظن أنها سرمدية وخالدة.

كثيرة هي الأشياء التي أذهلتنا في بداياتها، الكتب التي اقتنيناها بناء على العنوان فتركناها من صفحاتها الأولى، اللقاءات التي أسقتنا الأمل والحياة ثم تبين أنها مزيفة ومآلها الاندثار، الغرباء الذين نجالسهم بمقطورة القطار، فنندهش من نسيم الكاريزما الذي ينشرونه في الهواء، وبمجرد إعلان النقاش، يتضح أنهم أشخاص عاديون لهم من الصفات جميلها وقبيحها.

في الحقيقة كلنا نصاب بنوبات البرقة والدهشة مما يغلف الأشياء والناس، وبمجرد الخوض في تعرية ذلك المجهول الكامن، تسقط الدهشة ويصبح الأمر مألوفا وعاديا. لكن أظن أنه لولا دهشة البدايات لما استطاع الشاعر تأليف ديوان بأكمله يمدح ويمجد فيه، ولما استطعنا أن نعير لبعض الأمور اهتماما أو إعطاء فرصة لكمال محتمل أو ربما لدهشة استثنائية تدوم العمر بأكمله.

لكن رغم كل ما مرنا به من تجارب وخيبات الأمل من وراء دهشة البداية التي بنينا عليها أحلامنا، فنحن لا زلنا نتطلع إلى اللحظة الأولى في كل شيء والذهول الذي يرافقها، تاركين المجال للوقت لكي يزكي أو يدحض في حدسنا.