رمضان.. مشاهدات تضج بها الذاكرة

السبت - 09 يوليو 2016

Sat - 09 Jul 2016

حين تغيب شمس نهار كل يوم من رمضان، وما إن يلبث أن ينتهي الإفطار، ويذهب أفراد العائلة كل يمارس أعماله وهواياته تبدأ ضوضاء تلك الصحون بعد يوم شاق ومرهق في المطبخ لصنع المعجنات وما لذ وطاب.

تقوم بالاغتسال والتطيب بأثمن الطيب «دهن المسك» الذي لا يفوح خشية أن تصيبها لعنة الملائكة وتسابق خطواتها لذلك المسجد الذي ارتاح له قلبها فهي تستشعر روحانية وخشوعا لصوت ذلك الإمام الجليل.

وإنه من أجمل طقوس رمضان الشهيرة في المساجد البخور والعود والطيب خصوصا في مصلى الرجال الذي يفوح منه عبق العطور.

حين تدخل بين صفوف المصليات وترى ذاك الجمع الغفير تدهشها تلك العجوز التي معها عكاز وقد أنهكها السير حتى تصل لمحرابها، تلتقط أنفاسها بصعوبة، فتأتيها تلك الصبية الصغيرة بكوب ماء.. أقول في نفسي جزى الله خيرا من تصدق بوضع تلك الثلاجة ووفر الماء، وفي بعض الأحيان أرى علب العصير التي وضعت خصيصا للأطفال.

يا الله كم هي ‏مريحة مناجاة السجود. تجبر كسورنا وتضمد جراحنا. فنطيل السجود لله وتضيق فجوات الوجع منا ونسترد قليلا من طمأنينتنا التي سلبتها الحياة منا.

لحظات ألتفت فيها إلى يميني وشمالي لأرى المصليات من بلادي ومن أتين من دول مجاورة.. وبعضهن جاءت بأطفالها (المزعجين) أعلم جيدا أنهن حريصات على صلاة الجماعة ولا يستطعن ترك أطفالهن لوحدهم في البيوت، ولكن كم أقلقت خشوعنا أصوات أبنائهن.. فذات مرة - ولا أخفيكم أنني لا أحب أن أجرح أحدا - كنت بجانب أخت جاءت من بلاد بعيدة ومعها طفلها الذي كان يعبث فوق رأسي حين سجودي ويصرخ باكيا.. فحين فرغ الإمام من التسليمة الأولى نهضت وذهبت بعيدا عن صفها لأجد لي مكانا تسمو فيه روحي مع تلاوة الإمام وتتعمق فيه أحاسيسي..

تملؤني الدهشة حين ذهابي كل يوم للصلاة، إذ أرى في تلك الطرقات الأبيض والأسود والعربي والعجمي والكبير والصغير والمريض والمتعافي، كل الناس هنا في المسجد سواسية لا فرق بين غني وفقير ولا أبيض وأسود، ولا عامل وذي منصب، كلهم يتساوون أمام الله عدا في تقواهم وخشيتهم وخشوعهم.. فترى كل من جاء يجتهد لينال أجرا من الله بكل إخلاص فيسدون الفراغات بين الصفوف ويجتهدون في المساهمة في نظافة المسجد.. وكم أفرحني حين فرغت من الصلاة ووجدت طالباتي جئن للسلام علي وفرحت والله برؤيتهن، وفي نفس الوقت وجدت معلماتي بين تلك الصفوف، ووجدت جاراتنا اللاتي لم تسمح لي الفرصة بزيارتهن منذ زمن، وصديقات قد فرقتنا الأيام عن بعضنا.

ولا أنسى ذلك الموقف حين صليت فوجدت تلك التي بها علة في جسدها ولا تستطيع الإطالة في الصلاة فوضعت لها كرسيا ليعينها. ولا تلك التي بتر إصبع من يدها. وكم كنت أفكر من قبل في الذهاب لعيادة تجميل كي أبرز ملامح جديدة وجميلة لي، فحين رأيتهن حمدت الله على نعمة الصحة والعافية ولمت نفسي وجهلي. حين نرى الابتلاء في من حولنا تهون عندنا حالنا ونشكر الله فنحن لا نعرف حق نعمة الله علينا ونغفل عنها كثيرا.

حقا كانت تلك الـ30 يوما كفيلة بتغييري، وكم انطبعت فيّ مشاعر روحانية جميلة. يعجز قلبي عن استشعار ختامها وحرماني عاما كاملا منها.

عادت لمخدعها لتختبئ وقتا حتى تعتاد عودة الأيام الخالية من رمضان وروحانيتها وهي تردد في نفسها: ستعود يا رمضان ولكن هل سنعود معك.

بالمناسبة، ‏زينت ليالي العشر بطقوس خاصة بي فصنعت لي عقدا من اللؤلؤ في كل حبة استودعتها دعوة بيضاء وكررت معها أمنيات تقيني ومن أحب شرور وفواجع الدنيا، ‏ولي في القيام سجود وكنوز رجاء أن يديم لي أحبتي.

ختاما، أسأل الله تعالى أن يتقبلنا ويجعلني وإياكم ممن يصوم رمضان أعواما عديدة وسنوات مديدة.