مرزوق بن تنباك

عرب الشمال وعرب الجنوب

الثلاثاء - 29 سبتمبر 2020

Tue - 29 Sep 2020

يقولون «إذا أفلس التاجر فتش في دفاتره القديمة»، ودفاتر الماضي البعيد مملوءة بما يستحق أن يكون حديث الحاضر حتى ولو من باب التأسي به، ومن أفلست دفاتر حاضره لا بد أن يبحث في دفاتر ماضيه لعله يجد شيئا مفيدا له أو مخففا لما يعانيه من العجز والقهر وقلة الحيلة.

عندما كان العرب هم القطب الوحيد في العالم وصلوا إلى الصين ومدوا سلطانهم على غرب آسيا بكاملها ودخلوا أوروبا من بابها الغربي الأندلس، وهم يظنون أن غيرهم لا يستطيع مواجهتهم أو رد تقدمهم في الشرق والغرب. مر الصميل بن حاتم بمعلم يتلو القرآن فسمع «وتلك الأيام نداولها بين الناس « فاعترض وأمره أن يقرأ للصبيان: «وتلك الأيام نداولها بين العرب»، ظن أنه لا يمكن أن يكون الأمر في الدنيا لغيرهم ولا منافس لسلطانهم إلا منهم، يرى الصميل بن حاتم أنه لا بأس أن يختلف العرب على قيادة العالم وأن تكون الأيام مداولة بين عرب الشمال وعرب الجنوب، ولكن ليس بين الناس كما سمع المعلم يقرأ فاعترض وامتعض و»صحح».

فطن الساسة المنتصرون لخطورة القطب الواحد، وعملوا على قيام أقطاب في الداخل لوضع التوازن المطلوب، فنشط النسابون في عصر بني أمية وبرعاية الخليفة وتأييده لفكرة الأحزاب وتعدد الأنساب والأحساب واختلاف الديار في جزيرتهم قبل أن تدفعهم انتصاراتهم إلى خارجها، فقسم النسابون العرب إلى عدنانية وقحطانية، وعاربة ومستعربة، وعرب للشمال وعرب للجنوب، وأوقدت السياسة الأطماع بينهم ليكون بأسهم شديدا على أنفسهم، وشجع بنو أمية قبائل العرب على الاختلاف بين القحطانية والعدنانية وجعلوا تداول الأيام بينهم، فيوم للقحطانية ويوم للعدنانية على أساس هذا التقسيم، حتى تكون أمية هي واسطة العقد ويكون الخليفة هو الحكم المرضي بينهم، وفي رأي الخليفة أن التقسيم لا يضر ما كانت الغلبة عربية والعصبية عربية، ولم تعلم السياسة أنها زرعت بذرة الفرقة والتناحر واختلاف الحال إلى الأبد.

اليوم عادت لغة عرب الشمال وعرب الجنوب بمساحة واسعة من يوميات المغردين المعاصرين من كلا الحزبين، وأعيد مصطلح عرب الشمال وعرب الجنوب، وبعثت الفتنة من جديد، وتبادلوا الأسماء والصفات ذاتها في كل ما يكتبون لكن بغير شجاعة أسلافهم ولا قوتهم.

الفارق هو الحال الذي كان عليه الأولون، لأن عرب الشمال وعرب الجنوب كانوا يختلفون على قيادة العالم وغلبته واقتسام خيرات البلاد المفتوحة، وكان التنافس بينهم على ذلك، وقف أحدهم على ساحل المحيط الأطلسي، بحر الظلمات كما كانوا يسمونه، وضرب بعصاه وقال: لو أعلم أن وراءك أرضا وبشرا لخضت عبابك إليهم، هذا حال عرب الشمال وعرب الجنوب في دفاتر تجار العرب المفلسين اليوم يفتشونها، فيجدون فيها هذا الرصيد الذي يقرؤونه بحسرة، ويعرفون لماذا فرطوا به وكيف تحولوا إلى البحث في دفاتر الإفلاس المعاصر عن شيء مفيد لهم أو مسل ومخفف من هزائمهم التي لا يستطيعون الخلاص منها.

عرب الشمال اليوم وعرب الجنوب ليسوا أولئك الذين يقتسمون القوة ويحارب بعضهم بعضا على قيادة العالم وسيادته، عرب الشمال وعرب الجنوب الذين يثيرون المصطلح التاريخي اليوم يقاتلون على الولاء والصداقات الوهمية والمرحلية والتبعية للغرب أو للشرق الذي يمسك بزمام القوة والقدرة والتفوق، ويعلنون ولاءهم لهذا المعسكر أو ذلك المنافس له.

عرب اليوم في الشمال والجنوب غير عرب الأمس، عرب اليوم ينقسمون إلى موال وأتباع وطوائف وأحزاب تحركهم حبائل أعدائهم ضد مصالحهم ووجودهم، ويسمعون ما يملي عليهم أعداؤهم فيأخذون ويطيعون ويصدقون، وبأسهم على أنفسهم شديد.

Mtenback@