عبدالحليم البراك

تسطيح الصفوة

الاثنين - 21 سبتمبر 2020

Mon - 21 Sep 2020

بات في حكم الممل الحديث عن تفاهات مواقع التواصل الاجتماعي، وسيطرة بعض من لا يملكون أي محتوى على المشهد كله، فصار الناس يتبعونهم، لكن - ودون الإطالة في وصف واقع نعرفه جيدا - تظهر الأسئلة: من سطح الصفوة؟ من غيب الكبار؟ من استطاع وبجدارة أن يسقط الكاتب، وصاحب الرؤية، والأكثر عمقا لصالح ما يقدمه بعض الشباب والفتيات رغم خلوه من المحتوى والهدف إلا التفاهات والجسد؟!

لماذا فقدت الصفوة من مفكرين وفلاسفة وعلماء وأطباء وخبرات الإدارة مواقعها في المشهد العربي الإعلامي، وتركته لسيدة ترقص مع بناتها، وشاب متهور في المعلومات والفكرة وتقدير الموقف، لكنه محترف في الإثارة، ولفاعل خير يتاجر بالخبر، وإعلامي فقد وضعه في الإعلام فقلب محتواه إلى مواقع التواصل ليصبح الأنثى الراقصة، وخلفه الملايين تلعنه لكنها تتابع كل تفاصيله والمعلن معهما يبث التسويق لبضاعته؟!

أول مسؤول عن ذلك هم الصفوة، الذين تخلوا عن العلم وصاروا يندبون حظهم أكثر من كلمات علمية مفيدة يضعونها تنفع الناس، لقد كان المثقفون في السابق ينتقدون الصحافة بأنها أخذت مساحة الكتب، فصارت الصحافة منارة للعلم وبوابة للكتاب، والآن كل النقد موجه إلى تويتر وسناب شات وانستقرام في أنها زاحمت الصحافة وكان يمكن أن تكون تلك المواقع عناوين الصحافة والكتب والدليل إليها!

المسؤول عن ذلك المثقف الأكاديمي الذي يركض وراء المشاهير من الصغار ليقابلهم في ردهات الفنادق وزوايا الكافيهات ليحصل منهم على الدعم، ظنا منه أنه بذلك يحصل على حصة في سوق الرتويت والمشاهدات والمتابعات، لكنه نسي أنه لا يتبعه إلا طبقة واحدة، خالية من المحتوى لأنها هي طبقة المشهور الخالي من المحتوى الذي دعمه.

عالم أو طبيب يجعل من تويتر أو سناب شات سوقا له - ولا ضير في ذلك - وفجأة تتضاءل مصداقية المحتوى مقابل أهمية الحضور اليومي، فيدخل في تخصص غيره، ويأتي بمعلومات لا أحد يعرف مصدرها أو يسطح العلم بطريقة سمجة أو يتسرع في تقديم معلومة مثيرة لكنها غير صحيحة أو غير دقيقة أو تحتاج إلى تفصيل لا تسعه مواقع التواصل الاجتماعي.

يتقاتل الناس من أجل الإنصات للأخبار التافهة، أما الأخبار الكبيرة والتغييرات في العلم والاقتصاد والإدارة وعلوم الحياة باتت آخر اهتماماتهم، حتى في جائحة مثل كورونا، يلتقط الخبر من راقصة أو شيلة أو لقطة لمحتوى فاشل لا فائدة منه. يجب أن نتدارك الأمور وإلا سنشغل أنفسنا ووقتنا بتوافه الآخرين.

لن أبرئ نفسي، أنا مسؤول عن ذلك إن تابعت توافه الآخرين وملأت وقت نشاطي بهم وتخليت عن متابعة إنتاج عن مثقف رصين، أو عالم قدير، أو منحت وقتي لحفنة من مسطحي الفكر والمحتوى حتى ألهث نهاية يومي: هل ثمة وقت لمتابعة فكرة، أو اطلاع على مقال، أو قراءة كتاب أو بحث عن معلومة تغير غدا لي وللناس.

يمكنني القول بأن الناس العاديين قدرتهم على التمييز بين الجيد والرديء مقبولة، لكن رأيهم الجمعي معدم، فلا أحد منهم يريد أن يقاطع المحتوى الهابط حتى يخرج مشاهير الخراب من المشهد أو يرفعوا من مستواهم، لذلك أعطينا توافه التواصل الاجتماعية المشروعية، بدليل سيل الإعلانات الذي لا تحلم به قناة فضائية كاملة.

ما زلت أنا وأنت وقود الهبوط في المحتوى، ما لم نقاطع التوافه من الناس والمحتوى، ونتابع أهل الفكر والتغيير والإدارة والخبرة، إن لم أملك أنا - شخص عادي - التمييز بين الغث والسمين فلن يميز من مستواه أقل مني أو أكثر، فالناس يتبعون بعضهم، وشهوة معرفة آخر الأخبار ولو كانت ساذجة أهم بكثير من محتوى محترم!

@Halemalbaarrak