أطباء نبلاء

الأربعاء - 06 يوليو 2016

Wed - 06 Jul 2016

طويل وشاق للغاية ذلك الطريق الذي يسلكه الطبيب، فما إن يتخرج بامتياز وتفوق واضح في المرحلة الثانوية حتى يبدأ سنوات سبع عجافا في كلية الطب، ليس بها سوى الكثير من الجهد والعناء وقليل من الذاكرة البهية.

وحين يتخرج وقبل أن تكتمل أفراحه، يكتشف أنه حصل فقط على رخصة للانخراط في مهنة الطب وأنها ليست سوى البداية، عليه أن يبحث عن مكان بين الكبار، عن تخصص يمضي به أربعة إلى خمسة أعوام أخرى عملا ودراسة، يتبعها عامان إلى ثلاثة أعوام تخصص دقيق، يتطلب ذلك في غالب الأحوال السفر إلى خارج المملكة إلى القارتين الأوروبية أو الأمريكية الشمالية، يحدث ذلك قبل أن يتحمل مسؤولية مريضه الأول كاستشاري وهذا قانون مهنة الطب في جميع أرجاء الكون.

وفي هذه الرحلة الطويلة والشاقة والتي قد تصل إلى خمسة عشر عاما، يستطيع الطبيب حينها ممارسة مهنته التي بذل من أجلها كل ما يملك من جهود وتضحيات، وقبل أن يباشر مهامه بتطبيق ما هو جديد في هذا المجال، وما اكتسبه من علم وتجربة في سنوات الابتعاث حتى يجد نفسه مكرها لخوض صراع من نوع آخر يفقده التركيز على العمل والإبداع، هذا الصراع هو امتداد للاستقطاب المناطقي أو القبلي، وفي أحيان أخرى ليس سوى فشل إداري ذريع بالتعامل مع هؤلاء الأطباء (New comers) المحفزين والذين يحملون الكثير من الأحلام والآمال بتغيير نوعية الخدمات الصحية المقدمة كل حسب تخصصه، لقد نشأت الكثير من الصدامات والمشاحنات في العقدين الماضيين داخل أروقة الصروح الطبية الكبرى وكانت الحلول المطروحة أو المقبولة تقتضي رحيل هؤلاء الأطباء على الأقل داخل الوطن، إلا أنه خيار ليس متاحا للبعض بسبب عدد سنوات الابتعاث حيث تشير أنظمة تلك المؤسسات إلى وجوب أن يكمل الطبيب الخدمة بعدد سنوات الابتعاث بعد عودته، وفي غياب جهة تحمي هؤلاء الأطباء وتدرس أوضاعهم (كنقابة للأطباء) يصبح الأمر أكثر تعقيدا.

ولأن الخلاف يزداد ويتسع، ولأن هؤلاء الأطباء آمنوا بتلك الأفكار وحتمية الشروع في إنشاء البرامج والمشاريع الطبية كما تعلموها دون تأخير، فقد تحولوا فجأة ودون خيار إلى محاربين، فالهموم والآمال العريضة بالتغيير دفعتهم للاستمرار في صراع عبثي في الأمكنة الصعبة وربما الخاسرة، تطلب ذلك الكثير من الجهد والوقت إلى أن ألقوا أسلحتهم. أما النتيجة فقد كانت فشلا إداريا ذريعا وهدرا لتلك الطاقات عالية التأهيل، خسر المرضى خدماتهم وفقد القطاع الصحي سنوات من العمل والتخطيط!

وإذا وضعنا جانبا ما حدث في الماضي، ونحن على وعد التحول الوطني في القطاع الصحي، فإنه من الضرورة بمكان على التنفيذيين الجدد قراءة هموم وأحلام هؤلاء الأطباء وما اعتراهم من مصاعب وإخفاقات في سبيل الدفع بتلك الأفكار والمشاريع نحو الغد، حيث المستقبل.

ينبغي أيضا على الأهداف المعلنة لتحول الصحة 2020 أن تضمن عدم العودة لأخطاء الماضي المتعلقة في آلية عمل الأطباء الذين تم انتدابهم في أرقى المراكز الطبية المتخصصة في العالم، والتي تعلموا فيها احترام منظومة العمل واتباع الأنظمة التي لا تفرق بين ألوانهم ومعتقداتهم، لم يطلب منهم حينها معرفة أسماء التنفيذيين في تلك المؤسسات لتقديم طقوس الطاعة والولاء كما يحدث للأسف الشديد في بعض مؤسساتنا الطبية.

ولو أتيح لنا الاطلاع على بعض الإحصاءات عن أطبائنا، فإننا سنجد الكثير مما يثير الدهشة للمهتمين بالشأن الصحي العام وهو تواجد معظم هؤلاء الأطباء خارج وزارة الصحة!

فالإحصاء الأخير والصادر عن وزارة الصحة نفسها يشير إلى أن عدد الأطباء من جميع الجنسيات يبلغ 81,532 طبيبا (بمن فيهم أطباء الأسنان) منهم 19,029 سعوديا يشكلون ما نسبته 23.3 %‏ من عدد الأطباء في جميع القطاعات في المملكة.

وحين نمعن النظر في مجمل عدد الأطباء السعوديين نجد أن 25 % منهم يعملون في وزارة الصحة، بينما يفضل 75 % من الأطباء السعوديين العمل خارجها، حيث يعمل 70 % منهم في المستشفيات العسكرية (وزارة الدفاع، الحرس الوطني، والأمن العام) إضافة إلى المستشفيات الجامعية، بينما يعمل أقل من 5 % من الأطباء السعوديين في القطاع الخاص.

لقد آن الأوان لوزارة الصحة ممثلة بوزيرها توفيق الربيعة وتنفيذييه للاهتمام بشريحة الأطباء، وذلك لاستقطابهم وكسب ثقتهم، لا بد من سن قوانين وأنظمة واضحة تكفل لهم حقوقهم وتمنح المبدعين والنبلاء منهم مرونة أكبر في العمل والتنقل وتجنبهم خوض تلك الصراعات مجددا. ينبغي العمل على خلق بيئة مريحة ومهنية تمكنهم من التركيز على مرضاهم وبحث كل السبل الممكنة للقضاء على الألم والمرض، يجب أن يظل الطبيب متحفزا مبدعا ومتجددا ومع التحول الصحي المأمول والذي يتطلع إليه كل محب لهذا الوطن، يأمل الطبيب أن يجد فيه جيلا بعد جيل شيئا يحبه، شيئا يحتاج إليه، بعد أن يتخلص من تلك المصاعب، كي يتفرغ لأداء مهنته الإنسانية النبيلة، والتي لا يمكن لأحد غيره أن ينوب عنه في إنجازها.