زيد الفضيل

أولاد الناس

السبت - 08 أغسطس 2020

Sat - 08 Aug 2020

ليس سهلا أن ينغمس أحدنا في تفاصيل اللحظة منذ اللقطة الأولى، وليس بسيطا أن تغوص النفس في متواليات أحداث درامية ذات بعد تاريخي عكست جانبا من صراع الخير والشر، الظلم والعدل، الحرية والعبودية بصورة متدفقة منذ الابتداء وحتى النهاية، حتى إن سؤالا محوريا ظل يراودني وهو: هل جاءت مشخصة لكينونة مصر الأرض والإنسان؟ أم أنها مجرد استذكار لتاريخ مضى بخيره وشره، يمكن أن يتكرر في أرض المحروسة وفي غيرها من البلاد؟

إنها رواية «أولاد الناس .. ثلاثية المماليك» للكاتبة الدكتورة ريم بسيوني الحائزة على جائزة نجيب محفوظ أخيرا، والتي تحمل في عنوانها مفهوما مخاتلا يشي بقدرة الكاتبة وذكائها اللغوي، فجملة «أولاد الناس» وإن كانت في مظهرها تدل على المدح، لكنها تقتضي إكمال وصفهم، وهو ما يشي بالذم أيضا، إذ يمكن أن يكون الوصف مخلا بصفتهم وطبيعة تكوينهم؛ ناهيك عن أن الرواية قد كشفت من عنوانها بذرة الصراع الخفي والظاهر بين مجتمعين مختلفين كليا من حيث الهوية والتكوين، وهم المماليك بخلفياتهم المجتمعية والتاريخية ممن تم استقدامهم إلى مصر من بلاد تركستان كجنود مملوكين لقادتهم، وأهل مصر من سكانها العرب والأقباط، الذين شاء القدر التاريخي أن يعيشوا متجاورين مع المماليك بل ومتداخلين لاحقا، وكان من جراء ذلك أن عكست الرواية جانبا مهما من فلسفة طبيعة وأصل الوجود الإنساني، وحقيقة المفهوم الدلالي لمصطلح الحرية والعبودية.

وأصدقكم القول إني وطوال قراءتي لحيثيات وتداعيات الرواية، لم أنفك أستشعر تلك المقولة الخالدة للخليفة عمر بن الخطاب حين قال لواليه على مصر عمرو بن العاص: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟

لقد شكل مفهوم الحرية والعبودية عقدة النص الروائي منذ الفصل الأول، ومثلت قيم الخير والشر، والعدل والظلم، مكنون الحبكة الدرامية لأحداث الرواية طوال ثلاثة قرون هي فترة حكم المماليك التاريخي، وكان أن جاءت الأسماء والصفات والهيئات بدلالاتها المعنوية مؤكدة ما أشرت إليه، فالمسجد من حيث هو رمز للعدل الأسمى، والحرية الكبرى، والخير الأعم، كان شاخصا طوال عصر الرواية من خلال مسجد السلطان حسن، وهو القائم حتى الوقت الراهن؛ كما أن القضاء بما يدل عليه من قوة لتحقيق العدل، ومواجهة الشر، وفرض المساواة بين الناس، كان حاضرا على رأس المشهد، بل واستمر الشيخ القاضي وحتى نهاية الرواية رمزا للصمود، ومثالا لتلك النفس الأبية التي تستنكف الظلم، وتأبى الوقوع فريسة للضعف، في مقابل ما كان يعتري المرأة من ضعف وقلة حيلة حينا، وقوة وصمودا ودهاء نسويا أحيانا أخر.

وفي هذا الإطار فقد تمحورت الرواية حول عدد من الشخصيات النسوية، أخذت أولاهما اسم زينب بما يحمله الاسم من دلالة تاريخية لزينب الكبرى التي عاشت حالة من النضال في مواجهة ظلم تمكنت معه من حماية من تبقى من أسرتها، فكان أن ظهر بعض التماثل مع شخصية زينب المصرية التي افتدت أبيها وأخيها وابن عمها الذي أحبته وكانت قاب قوسين أو أدنى من الزواج به، بموافقتها وهي كارهة مرغمة على الزواج من القائد المملوكي، فعاشت معه صراعا مريرا بين نفس تأبى الرضوخ لعبد مملوك فرض عليها الزواج وهي الحرة الأبية، وجسد مستباح لرغبات ذلك المملوك الجلف، وهكذا تصاعدت حبكة الصراع بقدرة لغوية عالية، ووصف مبدع أخاذ، ليستشعر معه القارئ حالة من الحنق والغضب الجامح، لكن المفارقة أن تلك النفس الأبية التي كانت تعيش مرارة الذل، سرعان ما تلاشى غضبها، واستكانت نفسها، وأحبت المملوك الذي استملكها، ولعمري فتلك مفارقة تستدعي التأمل والتفكير.

على أن المفارقة الأعجب كانت مع الشخصية النسوية الثالثة وهي هند، التي يحمل اسمها دلالة تاريخية أيضا، والتي تنتمي بنسبها لشخصية مملوكية، لكنها ونتيجة لولادتها بأرض مصر قد باتت من «أولاد الناس»، وصار حكمها من حكم أهل مصر، هذه المرأة الحرة تتعرض لاستعباد من قبل قائد مملوكي، عمل على إذلالها وانتهاك جسدها وروحها، ثم وحين يتسنى لها استعادة حريتها، تأبى إلا مجاورته من جديد، وهو لعمري ما يثير تساؤلا أيضا حول طبيعة النفس البشرية بوجه عام، وتأثير واقع العمران عليها كما يقول العلامة ابن خلدون.

ختاما، أشير إلى أن الرواية قد جاءت ثرة بمعلوماتها التاريخية، وما أحوج أبنائنا اليوم لأن يستذكروا تاريخهم ولا سيما أننا أمام عدو يستهدف إزالة مكنون هوياتهم، ولنتذكر أن الجهل عبودية، والمعرفة حرية، وأن النفس إذا امتلأت قويت وعاشت أبية كريمة، وإن فرغت كانت إلى الطبلة أقرب، وكم أخشى هذا المصير.

zash113@