فرحان الذعذاع

بين البخيلة والمتينة

السبت - 18 يوليو 2020

Sat - 18 Jul 2020

قل للبخيلة بالسلام تورعا

كيف استبحت دمي ولم تتورعي

وزعمت أن تصلي بعام مقبل

هيهات أن أبقى إلى أن ترجعي

أبديعة الحسن التي في وجهها

دون الوجوه عناية للمبدع

ما كان ضرك لو غمزت بحاجب

يوم التفرق أو أشرت بأصبع

وتيقني أني بحبك مغرم

ثم اصنعي ما شئت بي أن تصنعي


كلمات محمد الجارم، غناء كوكب الشرق أم كلثوم (رحم الله الجميع) 1929م.

مع أني لا أستمع للأغاني إلا ما يمر منها مرور الكرام! وما أكثر ما يمر مرور الكرام وغير الكرام في هذا الزمن التواصلي.

لكن تبقى أم كلثوم وجيلها وقليل من الجيل الذي تلاها راسخين في الذاكرة بسبب انحدار الطرب شكلا ومضمونا في هذا الزمن! كان الطرب في زمنهم للأذن وحدها فأصبح اليوم للأذن والعين والغرائز!

ولنؤجل الحديث حتى نسقي أصحاب العيس هذا الإبداع: ذكر ابن عبد ربّه الأندلسي عن المبرد أنه خرج مع رفاق له من بغداد متجهين إلى واسط، فمالوا إلى «دير هرقل» الموجود على الطريق وهو ملجأ المجانين، فقرروا الدخول إليه فوجدوا شابا «حسن الوجه، مرجل الشعر، مكحول العين، أزج الحواجب، كأن شعر أجفانه قوادم النسور، وعليه طلاوة تعلوها حلاوة، مشدود بسلسلة إلى جدار». نظر إليهما دون أن يسلّم ثم أنشدهم.

لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم

وحملوها وسارت بالدمى الإبل

وقلبت بخلال السجف ناظرها

ترنو إلي ودمع العين ينهمل

وودعت ببنان زانه عنم

ناديت لا حملت رجلاك يا جمل

يا حادي العيس عرج كي أودعهم

يا حادي العيس في ترحالك الأجل


جيل محترم، بكلمات محترمة، وأنغام محترمة.

لا أريد أن أسمي «شيلات» بعينها أو أذكر أبيات بعض هذه الشيلات التي أعدمت ذوقيات المستمعين والنشء الشبابي، وقد رأيت الشيلات حتى تنجح تحتاج إلى شيئين: نغم حماسي مثير، وذكر لاسم شخص أو أسرة أو قبيلة، هذان الشيئان كفيلان بإنجاح هذه الشيلة وانتشارها ووصول مشاهداتها إلى عشرات الملايين في اليوتيوب المصدر الرئيس للاستماع، بغض النظر عن كلماتها!

ولو سألت المشاهدين الـ 10 ملايين لن تجد إلا النزر اليسير الذي يحفظ أو دقق في كلمات الشيلة؟ سمع اسم أسرته وقبيلته بالشيلة فحسب، مع دغدغة مشاعره بنغم حماسي!

بين التخصيص والتعميم للشعر بون شاسع وفرق واسع، ولك الخيار عزيزي المستمع بين كلمات وثناء ومدح مبالغ فيه لشخص لا نعرفه في هجرة أو منطقة لا نعرفها مع نغم جميل إهداء أو شراء!

أو كلمات عامة لكل زمان أو لشخصيات خالدة في التاريخ العربي أو الإسلامي أو الوطني والقبلي!

كنت واقفا عند إشارة مرور وبجواري شاب قد وضع صوت الشيلة على أعلى ما يكون الصوت، طبعا هو لم يخجل من ذلك كعادة الشباب الذين يستمعون للأغاني فهم لا يكادون يرون أحدا بجوارهم حتى يخفضوا صوت الأغنية احتراما وتقديرا! أما ربعنا أهل الشيلات فالأمر مختلف، لأنها حلال حسب (المتعارف عليه). عودا على بدء أقول: هذا الشاب بهذه الشيلة الحماسية وتفاعله معها خُيّل إلي أنه سيقفز من سيارته للكرسي المجاور لي بسيارتي قياسا على تفاعله وحركاته مع الشيلة! ولا تكاد الإشارة تعطي الإذن بالانطلاق حتى لا تكاد ترى لوحة السيارة الخلفية.

مشاهد من أرض الواقع:

  • مقطع لطلاب في أروقة المدرسة يتراقصون على إيقاع مثل هذه الشيلات وكلماتها مليئة بالعنصرية، ومنافية للذوق العام وبعيدة كل البعد عن الهدف التربوي والذوقي.

  • بعض شيوخ القوم ووجهائهم بل والضيوف من كبار السن والصغار في صالات الأفراح يتراقصون على شيلات مليئة بمدح القبيلة والأسرة، ولو قبلنا هذا من باب السرور والفرح ومن باب «اللهم لك الحمد أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح» لكان الأمر مقبولا، لكن الأمر تجاوز ذلك إلى أن البعض بدأ يمارس هذا السلوك حتى خارج صالات الأفراح بالمجالس التي تسمى عندنا (ديوان)، والتي كانت تسمى سابقا (المجالس مدارس)، وكأنه فلكور من تاريخ أسرته وقبيلته، أما تراثنا المعروف بهيئته وطريقته عبر السنين فممارسته لا تزيد الوقور إلا وقارا.




هذا الضيف الذي يتراقص على الشيلات بدعوة من المضيف كان أسلافنا لا يسمحون له بالقيام من مكانه ليغسل يديه قبل الأكل، إنما يأتون إليه بإبريق نحاس وصحن خاص به ليغسل يديه وهو على جلسته، تقديرا وإكراما من المضيف، ويعتبر ذلك من أبسط حقوق الضيف، بل يعتبرون قيامه للغسيل قصورا في إكرامه؛ هذا الضيف هو نفسه الذي يتراقص اليوم على الشيلات بمنزل المضيف حتى يكاد يسقط (بشته) من على كتفيه اهتزازا وطربا.

لست مفتيا ولا محللا ولا محرما، لكن أرى أن أمر الشيلات يحتاج إعادة نظر شرعا وعُرفا. والله من وراء القصد.


_shaas_@