خديجة محمد بابكر

خفايا الجائحة

الأربعاء - 10 يونيو 2020

Wed - 10 Jun 2020

من منا كان يتصور أن كائنا غريبا سيتفشى في جميع بقاع الأرض ويهوي باقتصاد دول عظمى ويكشف جوانب خفية في نفوس البشر، فيظهر أصالة هذا وحقارة ذاك؟ هل كان لك أن تتخيل كيف لفيروس بهذا الضعف أن يجلسك في البيت ويشل حركة العالم بأسره؟ أن يمنعك من أن تصافح ويمنعك من الاحتضان؟

بالتأكيد ستشعر أن مجرد التفكير في أمر كهذا ضرب من الخيال أو مجرد وثائقي يعرض على التلفاز، ولكن حقيقة الأمر عكس ذلك تماما، فهذا الوباء دخل بيوت كثيرين وانتشر كانتشار النار في الهشيم وقيد حياتنا بقفاز وكمامة، واضطرنا للابتعاد عن أحبتنا واجتنابهم، في المقابل منح كثيرا منا فرصة للتغيير، سواء في نمط الحياة أو العيش، أو تغيير خطط وتوقعات المستقبل، ففتح أبوابا كثيرة للتوفير والادخار والتخلي عن كل مأكول ومشروب مجهول الصنع أو التحضير، وكما كان سببا للتباعد الاجتماعي أصبح سببا لتقارب الأسرة والتقرب من ذواتنا وأنفسنا، فمنحنا وقتا أكثر للتعرف على المواهب الدفينة والإلهام والإبداع والعمل على تطوير وتحسين نقاط الضعف والخلل فينا.

فكان بداية لتجميل الروح وتهذيبها والتضرع والخضوع للمولى عز وجل، ومنا من زاد اهتمامه بغذائه وحميته وأصبح أكثر حرصا على جسده، ومنا من زاد تقربه من أبنائه ومن حوله، واستغل فرصة المكوث الطويلة في المنزل ليعيد اكتشاف شخصياتهم وميولهم ويكون مشجعا وداعما لهم، فصار هنالك وقت كاف لكل أمر، لاستخراج جميع الطاقات والرغبة في الخروج من هذه الجائحة بأكبر الفوائد والمنافع والاكتشاف والتعلم.

وكان هناك وقت أيضا للتسلية والمرح والاتصال والتقارب الالكتروني والشعور بقيمة مفقودة أو بالأحرى أصبحت ذات قيمة عندما فقدت، ولا أبالغ حينما أقول إن ما قبل الجائحة كانت زيارات الأقارب والتواصل معهم ثقيلة على نفوس البعض، بل قد تكون غير مرغوبة، فتجد أن الأبناء يفضلون قضاء أوقاتهم مع الأصدقاء أو في منازلهم عوضا عن تلك الزيارات التي قد يرونها عديمة النفع أو مملة بالنسبة لهم.

والجميل أننا اعتدنا الجلوس في المنزل وألِفنا البيوت وساكنيها وصارت كالعش الآمن، بعد أن كانت لدى البعض مجرد مكان للنوم ومحطة قصيرة تفصل بين مكان وآخر، ولأنني على يقين تام بأن الرغبة في التغيير تنبع من نفس الشخص ومن أعماقه لا من المسببات والبيئة المحيطة، فحتما سنجد من مرت عليه أيام الحجر مرور الكرام ولم تكن له أي وقفة مع الذات أو سعي واجتهاد للتغيير والتقدم، وكانت أقصى إنجازاته أن يمر الوقت دون أدنى جهد منه.

فلو أمعنا النظر قليلا سنجد أن هذا الوقت من أنسب الأوقات لكل من أراد أن يعزز ذاته ويعدد اللهجات، ولكل من رغب في تجدد الأفكار وقراءة الكتب والاستزادة من بحور المعرفة، ومع توفر الدعم من كل ذي مقدرة أصبحت الدورات والكتب في متناول الجميع، فنظمت الأيام وتجدد الروتين، وصار بإمكان الشخص أن يرتب جدولا للمهام التي يريد القيام بها خلال يومه من عمل أو قراءة أو قضاء وقت مع الأسرة أو الترفيه والتسلية.

لذا وعلى الرغم من الكوارث التي تسبب بها هذا الوباء وكونه مصدرا للآلام في جميع أنحاء العالم، إلا أنه كان مِنحة لتغييرنا والتوقف لمراجعة أخطاء الماضي، والعودة للحياة الطبيعية بنفس راضية راغبة في الحياة، مستشعرة للنعم قانعة ومتفكرة ومتدبرة فيما حولها، طامحة لغد أفضل وحياة أسعد.

الأكثر قراءة

جميلة عادل فته

رجال الأمن.. رجال