عثمان أبوزيد

صالح كامل والسودان وجميل الذكر

الخميس - 21 مايو 2020

Thu - 21 May 2020

من الأمثال السائرة في السودان قولهم "إن شاء الله يوم شكرك ما يجي" وفيه طلب البقاء وطول العمر لمن يقال له ذلك.

لكن شاعرهم محمد سعيد العباسي كسر هذه القاعدة السودانية، فهو لا يرضى من الدنيا إلا بجميل الذكر:

ولست أرضى من الدنيا وإن عظمت

إلا الذي بجميل الذكر يرضيني


ارتبط الشيخ صالح كامل بعلاقة ود مع أهل السودان، فطوقوه بجميل الذكر وجزيل الشكر.

في عام 2015م أجرت قناة النيل الأزرق الفضائية لقاء خاصا مع الشيخ صالح، وابتدر محاوره السموأل خلف الله بالسؤال: ما هذا الود الذي بينك وبين أهل السودان؟ فأجاب: "السودان له في نفسي معزة خاصة منذ أن جئت إلى هذا البلد في بداية السبعينات. ولم تنقطع صلتي طيلة هذه الفترة، إذ أشعر في السودان براحة نفسية، فما يزال في أهل الفطرة والطيبة".

وقناة النيل الأزرق الفضائية من الأثر الباقي للشيخ صالح كامل في السودان، وهو مشروع إعلامي بدأ بشراكة بين بنك البركة وبين تلفزيون السودان. ومع أن هذه الشراكة قد انفضت في الوقت الأخير، إلا أن البداية القوية لهذه القناة قدمت أنموذجا طيبا في العمل التلفزيوني الثقافي.

وقد أراد مجلس إدارة القناة في وقت من الأوقات أن يستعين بكاتب هذه السطور مديرا لها، إذ اتصل بي مكتب الشيخ صالح يعرض قبولي بتقلد هذه المسؤولية، لكنني كنت في أول عملي مع رابطة العالم الإسلامي، فاعتذرت وأشرت عليهم بمن كان أصلح مني في هذا المكان، الأستاذ حسن فضل المولى.

والحقيقة أن الشيخ صالح لم يدخل إلى السودان مجرد تاجر أو مستثمر، فكم من مستثمر أو طالب صيد يدخل إلى البلد، ولا يبقى في الأرض منهم ما ينفع الناس. لقد كانت للشيخ أياد بيضاء في مجالات كثيرة، فمثلا في التعليم العالي قدم الكثير لجامعة إفريقيا العالمية عبر مؤسسة اقرأ، وهذا ما تضمنه النعي الذي بادرت به الجامعة إذ قالت إن الشيخ من الداعمين الأساسيين للجامعة وطلابها، وقد منحته الجامعة الدكتوراه الفخرية إكراما له لما ظل يقدمه من خدمات للعلم وطلابه.

وله خدمات أخرى في جامعة أم درمان الإسلامية التي منحته أيضا الدكتوراه الفخرية في الاقتصاد الإسلامي عام 2014. ومعروف عن الشيخ صالح احتفاؤه ببحوث ودراسات الاقتصاد الإسلامي، ولا عجب في اهتمامه بجامعة أم درمان الإسلامية التي تعد أولى الجامعات في العناية بدراسات الاقتصاد الإسلامي على مستوى البكالوريوس والدراسات العليا.

وامتدت علاقة الشيخ صالح كامل بالسودانيين، من قيادة الدولة إلى العمق الشعبي.

وقد منحته الدولة وساما رفيعا؛ وسام النيلين من الطبقة الأولى، وهو وسام يقدم لمن قدم خدمات جليلة للدولة.

ولهذه العلاقة الخاصة رأينا الشيخ صالح مشفقا على السودان إبان الأحداث التي شهدها خلال شهر ديسمبر من العام الماضي وما تلاه، إذ توجه بخطاب مفتوح للسودانيين ومما جاء في ندائه "أرجو لبلدكم كل الخير... وأدعو إلى عدم الفوضى فالفوضى مدمرة لكل بلد".

وإثر الاتفاق بين أبناء السودان والتوقيع على الوثيقة الدستورية، خاطبهم بقوله: "أهنئكم ونفسي، فأنتم تعرفون محبتي للسودان، فأرجو أن تنتهي الفترة الانتقالية على خير وأن يسلم الحكم لحكومة مدنية".

ولا شك أنها وصية غالية تحث على السلام وروح الوئام بين أبناء الشعب السوداني، في وقت أكثر ما يكون السودانيون حاجة للائتلاف ونبذ العنف.

إن أجود إسهامات الشيخ صالح ما كانت في مجال الاقتصاد الإسلامي، وقد ذكر لي البروفيسور أحمد مجذوب أحمد وزير الدولة للمالية الأسبق في السودان أن الشيخ صالح لم يكن رجل أعمال يسعى لتعظيم ثروته وزيادة أرباحه فقط، مع أن ذلك ليس عيبا ولا يقدح في أعمال الآخرين، بل كان مستثمرا يتحرى الحلال في كل تعاملات مؤسساته، ففي دعوة جمعت كافة مديري مؤسساته المصرفية وبعض القيادات في مجال الاقتصاد الإسلامي، نبه وحذر بل وتبرأ من أن يعمل أي مدير بغير وجه شرعي ليكتسب ويعظم من أرباح مؤسسته المالية الإسلامية، وأنه خصيم له يوم القيامة في سعيه لهذا الكسب الحرام. وأنه يبوء بهذا الإثم ويتحمله منفردا.

ويقول البروفيسور أحمد في نعيه للشيخ صالح "لم يكن، تقليديا في تفكيره، جامدا عند ما يجده من آراء وأفكار، بل كان يسعى للتجديد وتقديم نموذج أصيل يمثل الاقتصاد الإسلامي الذي يسعى إليه ويتمناه، ولهذا كانت له رؤية في النظام المصرفي وفى الاستثمار وفى الإدارة.

ولعل آخر ندوة انعقدت قبل أيام وهي تبحث في الجوائح القوة القاهرة وأثرها على أداء المؤسسات المالية، أبانت كيف تفكر مؤسسات الشيخ صالح. (انتهى حديث أحمد مجذوب).

لقد ظللنا نحضر ندوة البركة بانتظام طوال السنوات الماضية في مدينة جدة، وكان الشيخ صالح يحرص على حضور الندوة مع ظروفه الصحية، وكان لافتا ما يقدمه في الكلمات الافتتاحية من فكر اقتصادي بأسلوب ميسر مفهوم، وذلك على خلاف ما قد نعهده عند غالب أهل الاختصاص من وعورة وصعوبة وإفراط في استخدام المصطلحات الفنية. وهذه القدرة في تبسيط العلم وتقديمه سائغا للناس، فضل من الله يؤتيه من يشاء، ولا سيما في تخصص يوصف عادة بـ "الكآبة" مثل تخصص الدراسات المالية والاقتصادية.

رحم الله الشيخ الجليل صالح كامل وأجزل له المثوبة جزاء ما قدم من أعمال باقية، ونسأل الله أن يوفق أبناءه على الاستمرار في العلاقة مع السودان والسودانيين، فـ "إن أبر البر أن يصل الرجل ود أبيه"، وصدق رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.

الأكثر قراءة