سباق التسلح الرشيد

الاحد - 05 أبريل 2020

Sun - 05 Apr 2020

مخطئ من يظن أن كورونا شر محض، فالتجربة تقول إن لهذا القاتل الصغير محاسن تخفيها سطوته وسيطرته على عقولنا ومداركنا، كونه فيروسا وصل إلى مستوى الجائحة، وهي رتبة أعيت كثيرا من الكائنات الدقيقة قبله، التي وإن تجلت وسطت فإن أقصى ما تصله هو مستوى الوباء وهو سقفها، وبعدها تخمد وتصبح في خبر كان الزائل عن الزمان والإنسان والمكان.

كورونا أعادنا أولا إلى دواخلنا إلى أنفسنا إلى ذواتنا التي أعيتها رتابة الحياة ومتعها وملذاتها، كورونا أعادنا إلى بشريتنا، تلك البشرية التي تجاوزت حدودها فرأت أنها بالمادة فقط تستطيع الخلود، وبالمادة فقط يكمن وجودها، وبالمادة فقط يقاس تنفذها وسطوتها، فظهر الظلم الذي شرعنته السياسات والغايات التي تبرر الوسائل فسطا كبار العالم على ضعفائه، واستصغر الكبار كل شيء إلا أطماعهم التي تسارعت في جنون فانصرفت لتصنع السلاح وتتسابق في إنتاجه وتجند الأجناد وتدمر الشعوب، كل ذلك باسم الحريات وحفظها والذود عنها في كل مكان.

مشهد الدبابات والمعدات الأخير وهي تصول وتجول في شوارع نيويورك يدهشك، فعلى الرغم من أن كورونا هي المصيبة إلا أن المشهد وسياقه وصوره الأولى تذكرك بالبيان رقم واحد للثورات التي كانت تحصل في بلدان العالم الثالث عندما يعتريها التغيير، وهذا ما يجعل المراقب الحصيف وبالقياس، يستشف أن النظام الرأسمالي يهتز على وقع ضربات كورونا الجديد، ولأن المكسب هو غاية هذا النظام، فقد صار من الضرورة بمكان أن يتغير خط إنتاج كثير من مصانعه وشركاته، فبالأمس كانت صناعاتها ثقيلة واليوم، أصبح الكمام والقفاز وأجهزة التنفس، هي الأسلحة الاستراتيجية التي تحمي الوجود الإنساني هناك وفي كل مكان.

لئن كانت القنابل النووية هي أسلحة الدمار والردع الشامل بالأمس، فإن أبسط معدات القطاع الصحي اليوم تعد الخيار الاستراتيجي للساسة هناك لحفظ ماء وجوههم أمام شعوبهم، وإبقاء حضارتهم ساطية على هذه الأرض.

بالنسبة لتجربتنا في السعودية، فالإنسان السعودي أثبت علو كعبه في الحفاظ على إنسانيته وقدرته على احتواء نفسه ومجتمعه، والمشاركة في صنع صور من التآخي والتلاحم والوفاق، صور كثيرة جسدتها الحكومة السعودية التي سخرت مواردها للمواطن والمقيم لتخفف عنه وطأة هذا الداء، ولتكون إجراءاتها جزءا مهما من التطبيق والدواء.

الإنسان عندنا يظل إنسانا، وحقه في الحياة يتساوى مع من جاء قبله أو بعده، ولذلك لا تفرق الأنظمة الصحية هنا بين مسن وشاب، فالكل سواء، شركاء في الهواء والماء والأرض والنماء، بعكس بعض الصور المأساوية التي شاهدناها في عالم السوق الحر، فالأكسجين يصبح حقا حصريا للشباب أما الكبار فهم الذين يُعلن رحيلهم قبل أوانهم ويتخلى عنهم كونهم عبئا على الحياة وعلى مفاهيم السوق وأربابه ولغته وأرقامه.

النظام الغربي تتهاوى قيمه ومفاهيمه الإنسانية بعد أن عراها كورونا، والجائحة الجديدة ستشكل عالما جديدا البقاء فيه للأقوى، والأقوى اليوم بمقاييس البقاء هو من يملك السلاح النوعي الجديد والرشيد، نظام صحي قدير، قوامه الممارس الصحي الخبير والسرير والدواء وقبلهما الترياق كجزء من الوقاية قبل العلاج، تحت مفاهيم حقوق الإنسان الحقيقية وأولها الصحة والغذاء والتعليم والكساء.

@alaseery2