شاهر النهاري

سيكولوجية الشحاذة

الجمعة - 24 يونيو 2016

Fri - 24 Jun 2016

أنا هنا لن أقوم بتحليل نفسية من يولد في مجتمع يمتهن الشحاذة، لأن الوضع حينها يكون خلقيا وراثيا، يعتقد خلاله الطفل، بأنه لا يقوم إلا بما وجد عليه أهله الأولين، وما فهمه وتلقنه منهم باعتباره الطريق السليم الشريف الممهد للحياة.

أما الشحاذة المكتسبة البعدية فإنها مرحلة نفسية تتبع نقطة انصهار واحدة؛ فبمجرد أن تقبل مد يدك للمحسن فأنت تصل إلى مرحلة الانصهار هذه، التي تتبعها فترة قبول وتصالح واقتناع بأن مد اليد عبارة عن حركة طبيعية لا تفرق عن حركة العمل اللاإرادية، التي تصدر عن الفلاح وهو يحرث والراعي وهو يقود القطيع والباني وهو يعلي طوبة في البناء، والدارس وهو يحرك قلمه على الورق، والخباز وهو يدني يده من نيران فرن العيش، والمهندس وهو يصنع، والطبيب وهو يفحص مريضه.

لن يعود الشحات يرى بعدها فيما يفعله أي غرابة أو شذوذ، بل إنه لن يلبث أن يجيد حركة مد اليد وأن يتفنن في نثر كلمات الدعاء والتوسل لمن يضع في يده قرشا.

التركيبة الإنسانية المتدرجة بين المعطي والآخذ بعيدة رغم قربها، لصيقة رغم معانيها.

الشحات في أول مرة عانى وحزن على نفسه وشعر بضيق شديد قد يدخله في مراحل إحباط وقنوط تتبعها مراحل تعوّد وترق على مشاعره العزيزة ليفصل بين ذاته، وبين ما يفعله. الظروف المحيطة لها دور عظيم عند البعض بحيث تجعلهم ينبذون الخضوع ويرفضون الحسنة ويبدؤون من الصفر بكرامة لا مثيل لها، والبعض يعجز عن إنكار الواقع، وينهار ويختصر الطريق.

الظروف قد تكون أقوى لدى العاجز كلية عن العمل، ولكن الحسرة والدمعة تظل دليله للتغلب على الانكسار.

الشحات يشارك الوطن والحكومة والمجتمع في صنعه، ولا يمكن تحميل كل اللوم عليه ذاتيا؛ فكم من حكومة تمكنت من رفع عزة ومعنوية الفقير حتى لا يرضى بالحسنة، وكم من وطن أعطى الحقوق لمواطنيه سواسية فلا يضطر أحد لمد يده لأخيه الإنسان، وكم من مجتمع عرف أين يجد من لا يسألون الناس إلحاحا، وينامون متصبرين بلا لقمة، متعففين من يد عليا ترصفهم في طوابير طويلة لتنيلهم في نهايتها طعم الذل والخنوع وموات مشاعر العزة بالنفس.

كم من جمعية خيرية أخذت الصور، وأعلنت عن تبرعاتها وهي منتهكة للأنفس مخادعة لا ترمي إلا لمزيد من تبرعات الأثرياء.

كم من محتال ضعيف نفس فقد كل معاني الكرامة فأصبح يعمل في كل شارع، وعلى كل إشارة وهو أغنى بكثير من المعطي.

كم هو من دلائل العار أن يكون في مدننا عدد كبير من المحتاجين، ونحن من يجبرهم على أن يسألونا إلحاحا.

كم هو عار ومنتهى التردي أن نرمي بحسناتنا لجمعيات تأكل أكثر مما تعطي.

وأخيرا انظر حولك، أخي المحسن يا رعاك الله، وحاول أن تبحث عن المستورين، دون كثرة ضجيج، ولتكن ممن يهب في ستر ودون أن تعلم يساره بما بذلت يمينه.

[email protected]