من إثراء إلى كاوست حراك وطن
السبت - 29 فبراير 2020
Sat - 29 Feb 2020
قلت لملهمي: وهل أجمل من أن يعيش المرء في رحاب المعرفة؟ ويتجول في أفانينها! فينهل من رحيق أزهارها عطرا شذيا، ويتضوع من نسمات عليلها أنفاسا زكية، ذلك ما عشته واقعا خلال الأسبوع المنصرم، حيث قدر لي أن أجوب الوطن من الماء إلى الماء، فكان ابتداء زيارتي بدعوة كريمة من مركز الملك عبدالله الثقافي العالمي (إثراء) لحضور عرضهم السنوي لبرنامجهم المعرفي الثقافي المزمع القيام به خلال السنة الحالية، الذي تنوعت فعالياته لتشمل جميع البرامج الإثرائية من ثقافة وفنون وبرامج مجتمعية، وكم كانت فرحتي بما رأيت وسمعت! وكم هي حرقتي أيضا لكوني أسكن بعيدا عن حماهم! ولذلك رجوت أن ينيروا دروبنا في مختلف مناطق المملكة بشيء من وهج المعرفة، فما أحوجنا إلى ذلك، ولا سيما أن إثراء هي إحدى مبادرات أرامكو السعودية الرائدة؛ قلت ذلك في مداخلتي ثم غادرتهم ولساني يلهج ببيت المتنبي الشهير: إن كان يجمعنا حب لغرته/ فليت أنا بقدر الحب نقتسم.
ثم كانت زيارتي الثانية في الأسبوع نفسه إلى جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست)، بدعوة كريمة من قبل إدارتها العليا لأعضاء الجمعية السعودية لكتاب الرأي، وكم هي دهشتي أيضا من حجم المنجز المادي المشيد في موقعها، الذي يضاهي في تصميمه أعظم الجامعات العالمية، على أن أكثر ما أدهشني ـ كباحث معرفي ـ القيمة العلمية التي تكتنزها الجامعة، حيث لفت نظري أن تقسيم الهيئة التعليمية جاء على النحو التالي: طالب، وعضو هيئة تدريس، وزميل باحث، وعالم، وبذلك تتكون الجامعة من طالب يبتغي نيل درجة الماجستير والدكتوراه، ويتوق إلى أن يجول ويصول في أفانين المعرفة والبحث العلمي الدقيق، يرافقه في مشواره الأكاديمي مجموعة من أعضاء هيئة التدريس بدرجاتهم العلمية المتنوعة، ويصاحبهم باحثون أنهوا دراساتهم الأكاديمية، وحصلوا على درجة الدكتوراه بتفوق وتفرد، ثم انضموا إلى حرم الجامعة المعرفي على كادر الزمالة البحثية، ومع كل أولئك مجموعة من الباحثين المتخصصين بتفرد علمي أيضا، أطلقت الجامعة على مفردهم مسمى عالم.
قلت لملهمي بدهشة الباحث المسرور: ألا يحكي هذا التقسيم للكادر العلمي قصة بيت الحكمة ببغداد، ودار الحكمة بالقاهرة؟ تلكما المؤسستان الرائدتان معرفيا في وقتهما، اللتان أفرزتا عديدا من العلوم التطبيقية، والنظريات البحثية المتنوعة، وكان لهما دور في نهضة العالم بعد ذلك، وبناء جسر معرفي صلب بين الحضارات السابقة واللاحقة.
في هذا السياق، ألا يجدر بمختلف جامعاتنا الوطنية أن تعيد النظر في طبيعة هويتها وكينونتها المعرفية؟ بمعنى أن تبحث من جديد في الغاية من وجودها من حيث كونها في الأساس حرما للبحث، وإثارة السؤال، والسباحة الفكرية في آفاق واسعة، أم إنه قد فرض عليها أن تكون مساحة مقصورة على التعليم التلقيني فحسب، وأن تنحصر وظيفتها في تهيئة الطالب للعمل الوظيفي كما هي عليه الآن، وهو أمر مخالف لكينونتها من حيث طبيعة تأسيسها، ذلك أن الجامعات ما أسست إلا لتكون حقلا معرفيا مفتوحا، ليس لها سقف معين في العمر، ولا في مساحات التفكير والتأمل وإثارة سؤال الدهشة والسؤال اللامفكر فيه.
تلك كانت صورة البحث العلمي في بيت ودار الحكمة، ولذلك كان بروز نخبة من العلماء الذين أثروا المعرفة بالنفيس من العلوم، وهو ما وعاه الغرب في عصر نهضتهم، فأبدع علماء الأنوار ابتداء، ثم تحللوا من قداسة تنويرهم فعمدوا إلى نقد ما وصلوا إليه فيما عرف بعصر نقد عالم الأنوار، وصولا إلى مرحلة الحداثة، ثم ما بعد الحداثة. ونحن لمَّا نزل حبيسي قعر الزجاجة، متصورين أننا قد انعتقنا منها، ولما نصنع بنسقنا الذهني جسر عبورنا بعد، وذلك هو حقيقة التيه المعرفي أجاركم الله.
zash113@
ثم كانت زيارتي الثانية في الأسبوع نفسه إلى جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست)، بدعوة كريمة من قبل إدارتها العليا لأعضاء الجمعية السعودية لكتاب الرأي، وكم هي دهشتي أيضا من حجم المنجز المادي المشيد في موقعها، الذي يضاهي في تصميمه أعظم الجامعات العالمية، على أن أكثر ما أدهشني ـ كباحث معرفي ـ القيمة العلمية التي تكتنزها الجامعة، حيث لفت نظري أن تقسيم الهيئة التعليمية جاء على النحو التالي: طالب، وعضو هيئة تدريس، وزميل باحث، وعالم، وبذلك تتكون الجامعة من طالب يبتغي نيل درجة الماجستير والدكتوراه، ويتوق إلى أن يجول ويصول في أفانين المعرفة والبحث العلمي الدقيق، يرافقه في مشواره الأكاديمي مجموعة من أعضاء هيئة التدريس بدرجاتهم العلمية المتنوعة، ويصاحبهم باحثون أنهوا دراساتهم الأكاديمية، وحصلوا على درجة الدكتوراه بتفوق وتفرد، ثم انضموا إلى حرم الجامعة المعرفي على كادر الزمالة البحثية، ومع كل أولئك مجموعة من الباحثين المتخصصين بتفرد علمي أيضا، أطلقت الجامعة على مفردهم مسمى عالم.
قلت لملهمي بدهشة الباحث المسرور: ألا يحكي هذا التقسيم للكادر العلمي قصة بيت الحكمة ببغداد، ودار الحكمة بالقاهرة؟ تلكما المؤسستان الرائدتان معرفيا في وقتهما، اللتان أفرزتا عديدا من العلوم التطبيقية، والنظريات البحثية المتنوعة، وكان لهما دور في نهضة العالم بعد ذلك، وبناء جسر معرفي صلب بين الحضارات السابقة واللاحقة.
في هذا السياق، ألا يجدر بمختلف جامعاتنا الوطنية أن تعيد النظر في طبيعة هويتها وكينونتها المعرفية؟ بمعنى أن تبحث من جديد في الغاية من وجودها من حيث كونها في الأساس حرما للبحث، وإثارة السؤال، والسباحة الفكرية في آفاق واسعة، أم إنه قد فرض عليها أن تكون مساحة مقصورة على التعليم التلقيني فحسب، وأن تنحصر وظيفتها في تهيئة الطالب للعمل الوظيفي كما هي عليه الآن، وهو أمر مخالف لكينونتها من حيث طبيعة تأسيسها، ذلك أن الجامعات ما أسست إلا لتكون حقلا معرفيا مفتوحا، ليس لها سقف معين في العمر، ولا في مساحات التفكير والتأمل وإثارة سؤال الدهشة والسؤال اللامفكر فيه.
تلك كانت صورة البحث العلمي في بيت ودار الحكمة، ولذلك كان بروز نخبة من العلماء الذين أثروا المعرفة بالنفيس من العلوم، وهو ما وعاه الغرب في عصر نهضتهم، فأبدع علماء الأنوار ابتداء، ثم تحللوا من قداسة تنويرهم فعمدوا إلى نقد ما وصلوا إليه فيما عرف بعصر نقد عالم الأنوار، وصولا إلى مرحلة الحداثة، ثم ما بعد الحداثة. ونحن لمَّا نزل حبيسي قعر الزجاجة، متصورين أننا قد انعتقنا منها، ولما نصنع بنسقنا الذهني جسر عبورنا بعد، وذلك هو حقيقة التيه المعرفي أجاركم الله.
zash113@