هبة زهير قاضي

رؤوس فوق السقف

الاثنين - 17 فبراير 2020

Mon - 17 Feb 2020

بدأ الموقف من تويتر حين وضعت إشارة لمعرفي صاحبة حساب تحت اسم وهمي، وذلك تفاعلا مع أحد الحسابات التي تجري المسابقات والسحوبات على أجهزة الآيفون، والذي طلب منهم عمل (منشن) لحسابات مؤثرين ومشاهير. ما لفت نظري هو أن صديقة لها أعادت التغريد ثم ردت عليها بدعوة صادقة لها بالفوز، ومن ثم ملاحظة فكاهية عن الكسب وملء الوقت حتى يأتي التعيين الذي طال انتظاره. وهنا دفعني الفضول للدخول معهما في الحوار وسؤالهما عن ماهية التعيين الذي تنتظرانه، فأجابتا بأنهما تعيشان في (الديره) وهما في انتظار تعيينهما مدرستين من قبل وزارة التعليم، حيث إنه الشيء الوحيد المتاح لهما، وأن الأولى تنتظر منذ سبع سنوات، أما الثانية فتنتظر منذ 13 عاما!

حينها أكملت النقاش معهما مدفوعة برغبة في إنقاذ هذه الطاقة الإنسانية المهدرة، وذلك بإخبارهما بأن بإمكانهما فعل كثير من الأشياء، والانخراط في أنشطة عدة، وابتكار الأعمال الربحية وهما في مجتمعهما، بل وفي بيوتهما، وذلك من خلال تعلم المهارات أونلاين.

أرسلت أسماء الكتب والمقالات التي توسع مداركهما، وروابط لمواقع تطور مهاراتهما، بل واقترحت مجموعة من الأفكار التي تستطيعان تطبيقها في المجتمع. كان تفاعلهما أكثر من رائع، فكأنما تلك الكلمات أحيت شيئا في داخلهما، وسقت أرضا جافة كانت تحسب أن لا خيار لها سوى الجفاف.

الموقف الثاني كان حين استقللت إحدى سيارة أجرة من كريم، سألني السائق حال ركوبي إن كنت أنا هبة قاضي الكاتبة، وحين أجبت بنعم، عبّر عن متابعته لي وتفاعله مع كتاباتي وطلب استشارة بخصوص حياته. كان أول ما بدأ حديثه معي هو وصفه لنفسه بأنه من أدنى فئات المجتمع، وأنه مدمر وغارق في الديون، وعن بعض المآسي التي مرت به في حياته. ربما كان يتوقع مني التعاطف الشديد مع حالته، وبعض كلمات التصبير والطبطبة المعنوية. ولكن ما فعلته كان العكس تماما، فحقيقة كان أول ما قلته له بأن وصفه لنفسه بأنه من أدنى فئات المجتمع ما هو إلا اعتقاد وهمي، ولا علاقة له بحقيقة وضعه في الحياة، وأن ما يقوله عن نفسه ويعتقده عنها هو ما يتحول ليصبح حقيقة وواقعا، فإما أن يرفعه عاليا أو ينزل به لأسفل سافلين.

وأكملت بأن عليه أن يكف حالا عن الشفقة على الذات، لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، وما حصل له من صعوبات وأزمات ليست مصنفة كأسوأ أو أصعب ما مر على إنسان، وأن عليه حالا أن يبدأ تقدير النعم والمكتسبات في حياته من صحة وعلاقة زوجية سعيدة، لأن للامتنان والحمد قدرة على تشغيل مناطق في المخ لها علاقة بالإيجابية، وزيادة القدرة على اقتناص الفرص، ومن ثم قلب صفحة الماضي وأحقاده وأزماته والانجرار إليها الذي سيوقعه في دوامة لا فكاك منها من التشتت. وأخيرا اقترحت عليه كتابا كبداية لتغيير أفكاره وتطويرها، لأن الإنسان لا يتغير من الخارج حتى يغير معتقداته وأفكاره من الداخل أولا.

إن ردة فعل فتاتي تويتر في الموقف الأول، ثم سائق كريم في الموقف الثاني تظل تذكرني بأنه كم للمجهودات البسيطة والكلمات التي لا تأخذ من وقتك إلا دقائق؛ القدرة على تغيير حيوات الآخرين، وإحياء نفوسهم من موات اليأس والضياع.

إنها الكلمات وسحرها يا سادة العجيب في مداواة القلوب وجبر النفوس، وفتح الأبواب وتبصير العيون بالفرص والآفاق ومواطن فاعلية النفس وتفعيل الطاقات.

وقبل الكلمات نحن وصدق مشاعرنا، واجتهاداتنا ومبادراتنا، والأهم إحساسنا بالمسؤولية، وحق الأقل حظا منا علينا أن نمد لهم أيدينا، لنستثمر من وقتنا وفكرنا وطاقتنا لهم، فنحييها من موات اليأس إلى حياة الأمل التي تفتح الأبواب، تعمر بها النفوس وترتقي الأرواح.

HebaKadi@