فيصل الشمري

كذبة التنوير

الاحد - 02 فبراير 2020

Sun - 02 Feb 2020

العلوم الحديثة: الطب، الحرية السياسية، علوم الاقتصاد والسوق الحرة، قيل لنا إنها نتيجة لمعجزة حدثت منذ 250 عاما. تسمى هذه المعجزة «مرحلة التنوير»، وهي لحظة في التاريخ عندما أطاح الفلاسفة فجأة بالعقيدة الدينية والتقاليد واستبدلوها بالعقل الإنساني. يقول الأستاذ بجامعة هارفارد ستيفن بينكر «التقدم هدية من مبادئ التنوير».

هناك مشكلة واحدة فقط مع ادعاء أن «مرحلة التنوير» هي المسبب لما نحن عليه اليوم من تقدم، المشكلة أن ذلك ليس صحيحا أبدا.

فكر معي قليلا، دستور الولايات المتحدة الذي قيل كثيرا إنه نتاج فكر التنوير، عليك فقط أن تقرأ عن القانون العام الإنجليزي وهو ما فعله ألكساندر هاميلتون وجيمس ماديسون من كاتبي الدستور الأمريكي لترى أنه ليس كذلك. في القرن الخامس عشر صاغ عالم القانون الإنجليزي جون فورتيسك نظرية «الضوابط والتوازنات»، والإجراءات القانونية الواجبة، ودور الملكية الخاصة في تأمين الحرية الفردية والازدهار الاقتصادي. وبالمثل، فإن شرعة الحقوق الأمريكية لها مصادرها في القانون العام الإنجليزي في القرن السابع عشر. فالقوانين التي تكفل الحريات الفردية في الدستور الأمريكي تستند على نظرية «الضوابط والتوازنات» التي كانت قبل مرحلة التنوير.

وبالنظر في العلوم والطب الحديث، قبل فترة طويلة من عصر التنوير، رعى ملوك اللغة الإنجليزية المقيدون بالتقاليد مؤسسات علمية رائدة مثل الكلية الملكية للأطباء التي تأسست عام 1518، والجمعية الملكية بلندن التي تأسست عام 1660. وأثمرت جهود المسلمين أيضا في تطوير علم الطب، وتأثرت ثقافة الغرب الطبية تأثرا كبيرا بما اقتبسوه من المسلمين في هذا المجال، وكان المسلمون هم أول من مارس عمليات الجراحة في العالم على الإطلاق، ووضعوا المؤلفات فيها وفي طرقها، والأمراض التي يجب استئصالها والآلات والأدوات التي تستعمل، وهم أول من اكتشف وسائل التخدير، وأنشؤوا المستشفيات، وقسموها قسمين: للرجال والنساء، وقسموا كل قسم إلى أقسام على حسب المرض، وأقاموا المعازل لعزل المرضى المصابين بأمراض معدية، بل لهم الفضل في إنشاء المستشفيات المتنقلة، وكل ذلك قبل مرحلة التنوير أو الإطاحة بالعقيدة الدينية.

الحقيقة هي أن رجال الدولة والفلاسفة، خاصة في إنجلترا وهولندا، والأندلس مثل ابن سينا وفي أواخر القرن الثاني عشر كان ابن رشد القرطبي قدم شروحه لفلسفة أرسطو. ويعد ابن رشد أول وآخر أرسطوطالي كبير على المسرح الفلسفي في الإسلام. ولعب مركزه بوصفه قاضيا في إشبيلية لتخصيص كثير من وقته لتفسير كتب أرسطو وشرحها وتلخيصها. وقد أثر نتاجه الفلسفي بشكل كبير على أوروبا، فقد صاغوا مبادئ الحكم الحر قبل قرون من تأسيس أمريكا.

فلماذا إعطاء التنوير كل الفضل؟ على ما يبدو لأنه ليس من الجيد أن نعترف بأن أفضل وأهم أجزاء الحداثة قد أعطيت لنا من قبل الأفراد الذين كانوا جميعا تقريبا لديهم معتقدات دينية وسياسية محافظة، وكان الدين جزءا مهما في إرثهم المعرفي.

يرتبط الادعاء بأن فلسفة مرحلة التنوير ترتبط ارتباطا وثيقا بالفيلسوف الألماني عمانوئيل بشكل استثنائي بأنه لا يمكن أن يكون هناك سوى إجابة واحدة صحيحة لكل سؤال في العلوم والأخلاق والسياسة. وللتوصل إلى إجابة واحدة صحيحة، كان على البشرية أن تحرر نفسها من سلاسل الماضي، أي من التاريخ والتقاليد والتجربة. لكن وجهة نظر التنوير هذه ليست خاطئة فحسب، ولكنها خطيرة. العقل البشري عندما ينفصل عن القيود التي يفرضها التاريخ والتقاليد والتجربة، ينتج كثيرا من المفاهيم المجنونة.

تعد فلسفة التنوير المجردة لجان جاك روسو مثالا جيدا. إذ سرعان ما هدم الدولة الفرنسية، مما أدى إلى الثورة الفرنسية عهد الإرهاب وحروب نابليون. مات الملايين عندما سعت جيوش نابليون إلى إعادة بناء كل حكومة في أوروبا في ضوء النظرية السياسية الصحيحة التي اعتقد أنه سمحت بها فلسفة التنوير.

يميل أنصار التنوير اليوم إلى تخطي هذا الجزء من القصة. إنهم يعبرون أيضا عن حقيقة أن والد الشيوعية، كارل ماركس الذي رأى نفسه امتدادا لحركة التنوير، يشجع العقل على التجرد من الماضي والعادات، وحتى من المؤسسة الدينية، فلقد انتهى «علمه» الجديد في المجتمع، في الاقتصاد والسياسة - المعروفة باسم الماركسية - افتراض أن كل المجتمعات تتقدم خلال الصراع بين الطبقات الاجتماعية: صراع بين طبقة الملاك المتحكمين بالإنتاج، وطبقة العمال الذين يعملون لإنتاج السلع في الاقتصاد، سبب ذلك قتل عشرات الملايين من الناس في القرن العشرين. وكذلك فعلت نظريات العرق العلمي المفترضة للنازيين.

أعظم كوارث الحداثة صممها أفراد زعموا أنهم يمارسون تحكيم العقل على الدين. في المقابل، فإن معظم التقدم الذي أحرزناه يأتي من تقاليد محافظة تشكك علانية في تجرد العقل والتفكير المجرد. نقاد التنوير، بمن فيهم جون سيلدن، ديفيد أكد هيوم، آدم سميث، إدموند بيرك، أكدوا عدم مصداقية «التفكير المجرد»، مع حثنا على الالتزام بالقرب من العرف والتاريخ والخبرة في جميع الأمور.

هذا كله يقودنا إلى أنه من الخطأ تقديس مرحلة التنوير التي لم تكن شخصياتها الرائدة منفتحة على ما قد يعلمنا إياه التاريخ والخبرة. كان هدفهم إنشاء نظام خاص بهم من الحقائق المعصومة المفترضة مستقلة عن التجربة. وفي هذا المسعى كانوا جامدين مثل معظم العقائديين. كان لدى المحافظين هدف مختلف تماما، لقد دافعوا عن التقاليد الوطنية والدينية، حتى أثناء زراعتهم ما أسموه «شكوكا معتدلة» بمزيج أصبح يعرف باسم «الفطرة السليمة».

أفكر كثيرا في الفطرة السليمة هذه الأيام، حيث أرى النخب الأمريكية والأوروبية تطالب بـ «التنوير الآن». إنهم يسارعون إلى اعتناق كل «عقيدة» عصرية جديدة - الاجتماعية والنسوية والبيئية وما إلى ذلك - معلنين أنها عالمية اليقين والطريقة الوحيدة «الصحيحة سياسيا» للتفكير. إنهم يبدون ازدراء تجاه أولئك الذين لم يعتنقوا عقائدهم، ويصفونهم بأنهم «غير مستنيرين»، و»غير ليبراليين»، و»مؤسفون»، وأسوأ من ذلك.

لكن هذه العقائد الجديدة تستحق أن تُستقبل مع بعض الشكوك. لقد أدى بنا الإفراط في الثقة بالتنوير إلى ضلالنا مرات عديدة.

mr_alshammeri@