في ضعف الإنسان.. أحيانا!
الأربعاء - 22 يونيو 2016
Wed - 22 Jun 2016
«ياخي خلك منطقي»، ربما من العبارات الأكثر ورودا في سير المحادثات والنقاشات اليومية. تفترض هذه العبارة أن الإنسان كائن منطقي يعمل وفقا لميزان الخير والشر، الصواب والخطأ، الفائدة والخسارة لتحديد مواقفه وخياراته.
هذه النظرة التقليدية والحالمة لـ«منطقية» الإنسان تهشّمت في العقود الأخيرة بين مطرقة التجارب العلمية وسندان البحوث الاجتماعية. بكل أسى، الإنسان لا يسير وفق حسابات المنطق والبديهة وما هو أصلح له (سيكون الكوكب أفضل بلا شك لو كنّا كذلك)، بل نحن رهن الانحيازات والسياقات والأخطاء الإدراكية في تفكيرنا.
من هذا الأساس انطلق علم الاقتصاد السلوكي behavioral economics، العلم الذي يشرح عملية اتخاذ القرار في ذهنية الإنسان وما تتعرّض له عملية التفكير هذه من أخطاء جوهرية. في مظلة هذا العلم، الإنسان كائن منطقي ولا منطقي في نفس الوقت. لدينا القدرات العقلية الكافية لاتخاذ قرارات تناسب مصالحنا وبقاءنا، ولكن هذه القدرات تتعطّل أحيانا في ظروف معينة ونتخذ قرارات أقرب ما تكون للسذاجة أحيانا والرعب في أحيان أخرى.
خذ العنصرية مثلا. ليس لدينا الوقت لتحليل كل شخص غريب نلتقيه، وليس لدينا الطاقة الكافية أصلا لتقييمه بشكل موضوعي أو «منطقي». فبدلا عن ذلك، نلجأ لتنميطات وتعميمات نعرفها سابقا عن المجتمع «الأسود» أو «الشيعي» أو «السَلَفي» ونبدأ نسقطها على ذلك الشخص بكل أريحية حتى نوفّر جهودنا الذهنية. هنا اختصرنا العملية كلها بإشارة واحدة: سواء كانت اللون أو الطائفة أو المظهر الخارجي. هذه الإشارات heuristics تختصر علينا مسألة اتخاذ القرار المعقدة، ولكن هذه المعالجة السريعة تأتي بأخطاء جسيمة وتكاليف عالية أحيانا، كعنصرية الإنسان القبيحة أو حتى اتخاذ قرارات يومية خاطئة.
هذه الثغرات الذهنية أصبحت أداة للشركات لتسويق منتجاتها على الجمهور. لماذا تعتقد مكدونالدز تسمّي أهم وجباتها بـ «الوجبة السعيدة» happy meal؟ التسمية تستغل طريقة «الاختصار» المذكورة. فالإنسان أحيانا يكفيه مؤشر واحد فقط ليقـيّم تصوّره الكامل من الغرض أو السلعة (كما يكفي لون البشرة في تقييم الناس). فالاسم «السعيد» لهذه الوجبة، يعطي انطباعا إيجابيا حولها بغض النظر عن مساوئها الصحية والغذائية أو مذاقها.
وكما يتم استغلال «لا منطقية» الإنسان لأهداف ربحية، من الممكن كذلك توظيف هذه الثغرات لأمور نافعة وصحيّة تصب في مصلحة الفرد. هذا التوجه المعروف بالأبوية الليبرالية libertarian paternalism ينص على التأثير على الفرد لاتخاذ قرارات أكثر نفعا مع الحفاظ على حريته في اتخاذ القرار وعدم إجباره. أفضل مثال لهذه الاستراتيجية ما نراه في عملية التبرع بالأعضاء.
ألمانيا والنمسا، دولتان متشابهتان متطابقتان إلى حد النسخ في الثقافة والقيم والأعراف. ولكن نجد أن نسبة التبرع بالأعضاء في ألمانيا لا تتجاوز 12 %، بينما تصل النسبة إلى 99 % في النمسا. السبب بسيط جدا، عندما تصدر رخصة القيادة في النمسا، فإن قرار «الموافقة على التبرع بالأعضاء» هو القرار الافتراضي الموجود في استمارة التسجيل، وإذا أردت إلغاء الموافقة عليك طلب ذلك. أما في ألمانيا، يتم سؤال المواطن لطلب موافقته على التبرع، وحينها تصبح الإجابة غالبا (لا)! هذا الفرق البسيط يستغل رغبة الإنسان للبقاء على الخيارات الافتراضية لأنه يظن أنها هي «الطبيعية» فلا يتجرأ غالبا للشذوذ عنها، فمن الممكن تسيير رأي الجمهور حول أمرٍ ما، وذلك بتصوير الأمر بأنه «خيار افتراضي» أو «مشهور».
بين كل هذه الثغرات، يتضح أن الإنسان أضعف بكثير من أن يكون «منطقيا» و«عقلانيا» في قراراته ومواقفه.
ولحسن الحظ أنه كلما زادت معرفتنا بقصورنا وثغراتنا، زادت قدرتنا على عقلنة الأمور واتّسعت مساحة التفكير الحر، بعيدا عن غايات الآخرين وسيطرة السائد.
هذه النظرة التقليدية والحالمة لـ«منطقية» الإنسان تهشّمت في العقود الأخيرة بين مطرقة التجارب العلمية وسندان البحوث الاجتماعية. بكل أسى، الإنسان لا يسير وفق حسابات المنطق والبديهة وما هو أصلح له (سيكون الكوكب أفضل بلا شك لو كنّا كذلك)، بل نحن رهن الانحيازات والسياقات والأخطاء الإدراكية في تفكيرنا.
من هذا الأساس انطلق علم الاقتصاد السلوكي behavioral economics، العلم الذي يشرح عملية اتخاذ القرار في ذهنية الإنسان وما تتعرّض له عملية التفكير هذه من أخطاء جوهرية. في مظلة هذا العلم، الإنسان كائن منطقي ولا منطقي في نفس الوقت. لدينا القدرات العقلية الكافية لاتخاذ قرارات تناسب مصالحنا وبقاءنا، ولكن هذه القدرات تتعطّل أحيانا في ظروف معينة ونتخذ قرارات أقرب ما تكون للسذاجة أحيانا والرعب في أحيان أخرى.
خذ العنصرية مثلا. ليس لدينا الوقت لتحليل كل شخص غريب نلتقيه، وليس لدينا الطاقة الكافية أصلا لتقييمه بشكل موضوعي أو «منطقي». فبدلا عن ذلك، نلجأ لتنميطات وتعميمات نعرفها سابقا عن المجتمع «الأسود» أو «الشيعي» أو «السَلَفي» ونبدأ نسقطها على ذلك الشخص بكل أريحية حتى نوفّر جهودنا الذهنية. هنا اختصرنا العملية كلها بإشارة واحدة: سواء كانت اللون أو الطائفة أو المظهر الخارجي. هذه الإشارات heuristics تختصر علينا مسألة اتخاذ القرار المعقدة، ولكن هذه المعالجة السريعة تأتي بأخطاء جسيمة وتكاليف عالية أحيانا، كعنصرية الإنسان القبيحة أو حتى اتخاذ قرارات يومية خاطئة.
هذه الثغرات الذهنية أصبحت أداة للشركات لتسويق منتجاتها على الجمهور. لماذا تعتقد مكدونالدز تسمّي أهم وجباتها بـ «الوجبة السعيدة» happy meal؟ التسمية تستغل طريقة «الاختصار» المذكورة. فالإنسان أحيانا يكفيه مؤشر واحد فقط ليقـيّم تصوّره الكامل من الغرض أو السلعة (كما يكفي لون البشرة في تقييم الناس). فالاسم «السعيد» لهذه الوجبة، يعطي انطباعا إيجابيا حولها بغض النظر عن مساوئها الصحية والغذائية أو مذاقها.
وكما يتم استغلال «لا منطقية» الإنسان لأهداف ربحية، من الممكن كذلك توظيف هذه الثغرات لأمور نافعة وصحيّة تصب في مصلحة الفرد. هذا التوجه المعروف بالأبوية الليبرالية libertarian paternalism ينص على التأثير على الفرد لاتخاذ قرارات أكثر نفعا مع الحفاظ على حريته في اتخاذ القرار وعدم إجباره. أفضل مثال لهذه الاستراتيجية ما نراه في عملية التبرع بالأعضاء.
ألمانيا والنمسا، دولتان متشابهتان متطابقتان إلى حد النسخ في الثقافة والقيم والأعراف. ولكن نجد أن نسبة التبرع بالأعضاء في ألمانيا لا تتجاوز 12 %، بينما تصل النسبة إلى 99 % في النمسا. السبب بسيط جدا، عندما تصدر رخصة القيادة في النمسا، فإن قرار «الموافقة على التبرع بالأعضاء» هو القرار الافتراضي الموجود في استمارة التسجيل، وإذا أردت إلغاء الموافقة عليك طلب ذلك. أما في ألمانيا، يتم سؤال المواطن لطلب موافقته على التبرع، وحينها تصبح الإجابة غالبا (لا)! هذا الفرق البسيط يستغل رغبة الإنسان للبقاء على الخيارات الافتراضية لأنه يظن أنها هي «الطبيعية» فلا يتجرأ غالبا للشذوذ عنها، فمن الممكن تسيير رأي الجمهور حول أمرٍ ما، وذلك بتصوير الأمر بأنه «خيار افتراضي» أو «مشهور».
بين كل هذه الثغرات، يتضح أن الإنسان أضعف بكثير من أن يكون «منطقيا» و«عقلانيا» في قراراته ومواقفه.
ولحسن الحظ أنه كلما زادت معرفتنا بقصورنا وثغراتنا، زادت قدرتنا على عقلنة الأمور واتّسعت مساحة التفكير الحر، بعيدا عن غايات الآخرين وسيطرة السائد.