تمكين المدن للارتقاء بـ«جودة» حياة الناس اليومية
السبت - 11 يناير 2020
Sat - 11 Jan 2020
شكلت صفات جودة الفراغات العامة المفتوحة وأحجامها منظومة اعتبرت إلى حد اليوم سليمة وفريدة من نوعها، إذ أصبحت تدرّس في مدارس العمارة وتخطيط المدن. ولكن اليوم تجري إعادة استساغتها في صورة معاصرة «انفعالية» للمدن الخليجية «الحديثة» كالمسجد الكبير في (أبوظبي)، والمراكز الثقافية الجديدة (متحف اللوفر، أبوظبي) والأبراج الشهيرة كبرج خليفة وبرج الفيصلية والمملكة، وأسواق التسوق الجديدة الضخمة، والمساحات الخضراء المفتعلة والغولف، ومجمل أعمال البحث حول مفهوم الاستدامة والمعايير العالمية وامتلاك الفنادق ذات «السبع» نجوم والجزر الجديدة.
فمثلا في الرياض، تقلصت منظومة هذه المعطيات بنسبة 80% في نصف قرن، إذ صار إجمالي الفراغات العامة المفتوحة ذو الجودة يشكل 2% من مساحة مدن الشرق الأوسط مقارنة بـ 12% في المدن الأوروبية (وفقا لهيئة الأمم المتحدة للمستوطنات 2009). وينبغي هنا التنويه بأن تقليل وفشل الفراغات العامة المفتوحة يدور حول عدد من العوامل، كالتعاطي مع أهميتها ومنهج التخطيط المحلي داخل المدن، والحيرة في كيفية تحقيق متطلبات التنمية، واستيعاب المفهوم المكاني، وما إلى ذلك.
وهنا ترد علينا بالتأكيد أهمية المكان كإطار متسع لمفاهيم «إنسانية» عدة تخدم الكتل الاجتماعية على تنوعها أفرادا ومجموعات وأصنافا عمرية مختلفة، وذلك في إطار البنية العمرانية ذات الارتباط. وهذا ما يرمي إليه تيم جيل مؤلف كتاب «لا خوف: النمو في مجتمع يحتمل المخاطرة» حين يقول في كتابه هذا «إن سمات المدينة القريبة من الإنسان هي تلك التي تسمح بالحريات اليومية، لذلك يمكن لهذا الإنسان أن ينشر أجنحته أثناء نموها، حيث لا يكفي مجرد الحديث عن الملاعب والفراغات العامة الجميلة، بل ينبغي أن تمتد الأمور إلى خلق منطقة أطفال مستقلة للعب؛ فهي أماكن يجب أن تؤخذ في الاعتبار من قبل البالغين والأطفال والمراهقين ..إلخ».
ولا يخفى على العامة انهماك مديري المدن في عملية تشغيل المدينة أكثر منه في صناعة قرار صياغة مشهد حضري آفاقي، إذ عادة ما يتم اللجوء إلى المسكنات المؤقتة لبعض مظاهر المَرض هنا وهناك، بتناول الشكل دون المضمون. فعلى سبيل المثال تم اللجوء في هذا السياق إلى الكباري والجسور والإنفاق لحل مسألة الإرهاق الحركي للمركبات الذي كبل إنتاجية المدينة، مما أدى إلى استفحال المرض. فالمسكنات المعتمدة هنا لا تخرج عن كونها كالحرث في المياه، إذ لا تجدي ولا تنفع. فالحاجة في هذا الإطار تتطلب النظر إلى ما بعد الخمس السنوات أو العشرين السنوات القادمة.
وفي هذا التوجه نفسه وفيما يتعلق بالأطفال مثلا: أنجزت حديثا مجموعة أُرب تقريرا حددت فيه خمسة تحديات تواجه هؤلاء في المدن الحضرية، كحركة مرور المركبات ذات التلوث والضوضاء وحياة المباني العالية ذات العزلة الاجتماعية، والتمدد ذي الزحف العمراني والجريمة ذات مصدر القلق الاجتماعي والعزلة السكنية والتعصب وعدم الكفاية والمساواة المجتمعية لدخول المدينة والاستمتاع بها. وبهذه التحديات، فإن إعادة تجديد المشهد وسهولة الوصول للفراغات العامة المفتوحة أصبحتا تشكلان في جميع أنحاء العالم رهانات ذات زخم أكاديمي ومهني على جميع المستويات، سياسية كانت أو اقتصادية أو ثقافية اجتماعية.
ولإلهام المدن السعودية من هذه الزاوية، حيث تمثل السيارة بـ «أنفاقها وجسورها» رمزا قويا، نذكر هنا مثلا ذا معنى، إذ عندما أراد «فيلياج» أمين مدينة «تيرانا» عاصمة ألبانيا البلد الفقير بمعايير أوروبية شرقية، بناء ملعب كبير في البحيرة الاصطناعية، اجتذبت هذه المبادرة احتجاجات شعبية كان بعضها سلبيا عنيفا ومعارضا. فخرج في لقاء صحفي ليشير بصوت الضمير إلى أن الفراغ العام الحضري ورغد عيش السكان في كامل أرجائه هما أسمى أهدافه، حيث قال «إن أقلية صوتية معارضة ومترابطة بشكل جيد ولها مصالح مشتركة خلف الكواليس بالفعل ستثير كثيرا من الضجيج والمتاعب.. ولكن علينا أن نثق في أن الأغلبية الصامتة سوف تظهر عندما يتم افتتاح الملعب العام».
وقد تمكن منذ العام الأول من عمله كأمين مدينة من استعادة 40 ألف متر مربع من الأراضي التي سُرقت وتطورت بشكل غير قانوني، مما سيمهد له مع منتصف عام 2020 جاهزية إنشاء إجمالي 31 ملعبا حضريا مفتوحا للعامة. وقد أصبحت مدينة تيرانا تتباهى عالميا مثلا بـ «مجلس المدينة للأطفال»، حيث يلتقي الممثلون الفتية والفتيات مع عمدة (أمين) مدينتهم، ويناقشون معه رؤيتهم ويشرحون له طموحاتهم وكيفية مشاركتهم ومن ثم يعودون بنتائج اجتماعهم إلى مدارسهم لمشاركتها مع زملائهم وأساتذتهم. ويقول فيلياج في هذا السياق إن «الشيء العظيم هو أن الأطفال ليس لديهم أي أجندة خفية، فهم أفضل المدافعين عن إقناع والديهم بأهمية إعادة التدوير والمشي واستخدام الدراجة إلى المدرسة واللعب مع الأطفال في فراغات الحي المفتوحة».
وهكذا فإن الترميز لطلاقة الأطفال يحيلنا إلى أهمية أن يكون التفكير المستقبلي هنا متجردا من كل انفعالية كما ذكرنا آنفا، ولا سيما أن الأمر يتعلق بالسعي الدؤوب لتجويد حياة الإنسان زمانيا ومكانيا، دون أي خلفية تخرج عن هذا الإطار.
@dradelzahrani
فمثلا في الرياض، تقلصت منظومة هذه المعطيات بنسبة 80% في نصف قرن، إذ صار إجمالي الفراغات العامة المفتوحة ذو الجودة يشكل 2% من مساحة مدن الشرق الأوسط مقارنة بـ 12% في المدن الأوروبية (وفقا لهيئة الأمم المتحدة للمستوطنات 2009). وينبغي هنا التنويه بأن تقليل وفشل الفراغات العامة المفتوحة يدور حول عدد من العوامل، كالتعاطي مع أهميتها ومنهج التخطيط المحلي داخل المدن، والحيرة في كيفية تحقيق متطلبات التنمية، واستيعاب المفهوم المكاني، وما إلى ذلك.
وهنا ترد علينا بالتأكيد أهمية المكان كإطار متسع لمفاهيم «إنسانية» عدة تخدم الكتل الاجتماعية على تنوعها أفرادا ومجموعات وأصنافا عمرية مختلفة، وذلك في إطار البنية العمرانية ذات الارتباط. وهذا ما يرمي إليه تيم جيل مؤلف كتاب «لا خوف: النمو في مجتمع يحتمل المخاطرة» حين يقول في كتابه هذا «إن سمات المدينة القريبة من الإنسان هي تلك التي تسمح بالحريات اليومية، لذلك يمكن لهذا الإنسان أن ينشر أجنحته أثناء نموها، حيث لا يكفي مجرد الحديث عن الملاعب والفراغات العامة الجميلة، بل ينبغي أن تمتد الأمور إلى خلق منطقة أطفال مستقلة للعب؛ فهي أماكن يجب أن تؤخذ في الاعتبار من قبل البالغين والأطفال والمراهقين ..إلخ».
ولا يخفى على العامة انهماك مديري المدن في عملية تشغيل المدينة أكثر منه في صناعة قرار صياغة مشهد حضري آفاقي، إذ عادة ما يتم اللجوء إلى المسكنات المؤقتة لبعض مظاهر المَرض هنا وهناك، بتناول الشكل دون المضمون. فعلى سبيل المثال تم اللجوء في هذا السياق إلى الكباري والجسور والإنفاق لحل مسألة الإرهاق الحركي للمركبات الذي كبل إنتاجية المدينة، مما أدى إلى استفحال المرض. فالمسكنات المعتمدة هنا لا تخرج عن كونها كالحرث في المياه، إذ لا تجدي ولا تنفع. فالحاجة في هذا الإطار تتطلب النظر إلى ما بعد الخمس السنوات أو العشرين السنوات القادمة.
وفي هذا التوجه نفسه وفيما يتعلق بالأطفال مثلا: أنجزت حديثا مجموعة أُرب تقريرا حددت فيه خمسة تحديات تواجه هؤلاء في المدن الحضرية، كحركة مرور المركبات ذات التلوث والضوضاء وحياة المباني العالية ذات العزلة الاجتماعية، والتمدد ذي الزحف العمراني والجريمة ذات مصدر القلق الاجتماعي والعزلة السكنية والتعصب وعدم الكفاية والمساواة المجتمعية لدخول المدينة والاستمتاع بها. وبهذه التحديات، فإن إعادة تجديد المشهد وسهولة الوصول للفراغات العامة المفتوحة أصبحتا تشكلان في جميع أنحاء العالم رهانات ذات زخم أكاديمي ومهني على جميع المستويات، سياسية كانت أو اقتصادية أو ثقافية اجتماعية.
ولإلهام المدن السعودية من هذه الزاوية، حيث تمثل السيارة بـ «أنفاقها وجسورها» رمزا قويا، نذكر هنا مثلا ذا معنى، إذ عندما أراد «فيلياج» أمين مدينة «تيرانا» عاصمة ألبانيا البلد الفقير بمعايير أوروبية شرقية، بناء ملعب كبير في البحيرة الاصطناعية، اجتذبت هذه المبادرة احتجاجات شعبية كان بعضها سلبيا عنيفا ومعارضا. فخرج في لقاء صحفي ليشير بصوت الضمير إلى أن الفراغ العام الحضري ورغد عيش السكان في كامل أرجائه هما أسمى أهدافه، حيث قال «إن أقلية صوتية معارضة ومترابطة بشكل جيد ولها مصالح مشتركة خلف الكواليس بالفعل ستثير كثيرا من الضجيج والمتاعب.. ولكن علينا أن نثق في أن الأغلبية الصامتة سوف تظهر عندما يتم افتتاح الملعب العام».
وقد تمكن منذ العام الأول من عمله كأمين مدينة من استعادة 40 ألف متر مربع من الأراضي التي سُرقت وتطورت بشكل غير قانوني، مما سيمهد له مع منتصف عام 2020 جاهزية إنشاء إجمالي 31 ملعبا حضريا مفتوحا للعامة. وقد أصبحت مدينة تيرانا تتباهى عالميا مثلا بـ «مجلس المدينة للأطفال»، حيث يلتقي الممثلون الفتية والفتيات مع عمدة (أمين) مدينتهم، ويناقشون معه رؤيتهم ويشرحون له طموحاتهم وكيفية مشاركتهم ومن ثم يعودون بنتائج اجتماعهم إلى مدارسهم لمشاركتها مع زملائهم وأساتذتهم. ويقول فيلياج في هذا السياق إن «الشيء العظيم هو أن الأطفال ليس لديهم أي أجندة خفية، فهم أفضل المدافعين عن إقناع والديهم بأهمية إعادة التدوير والمشي واستخدام الدراجة إلى المدرسة واللعب مع الأطفال في فراغات الحي المفتوحة».
وهكذا فإن الترميز لطلاقة الأطفال يحيلنا إلى أهمية أن يكون التفكير المستقبلي هنا متجردا من كل انفعالية كما ذكرنا آنفا، ولا سيما أن الأمر يتعلق بالسعي الدؤوب لتجويد حياة الإنسان زمانيا ومكانيا، دون أي خلفية تخرج عن هذا الإطار.
@dradelzahrani