ياسر عمر سندي

عقلية التعطيل وذهنية العراقيل

الأربعاء - 25 ديسمبر 2019

Wed - 25 Dec 2019

حين أمرنا المولى عز وجل بالتركيز على أعلى قمة في البناء الإنساني وأرقى درجة في المقام البشري، حثنا على المحافظة عليه من أي مدخلات تعطله أو أي رواسب تعوق من فعاليته كيميائيا أو أيدولوجيا أو نفسيا، ومن أن تشوبه عوامل الشلل الفكري والفقد المعرفي، والتشتت بين جنبات التخلف والصراعات.

والتوجيه الرباني جاء جليا بالبحث في الملكوت الكوني، والانفتاح على مختلف الثقافات والعقليات والاستعداد لتلقي المدخلات باستقبال الحسنات وترك السيئات، قال تعالى (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) الحجرات 13. وهذه المكانة العظيمة للعقل البشري لها وضعها الاستراتيجي كونه هامة الإنسان وقامته، وبسقوطه تنعدم قيمته الفكرية والإنسانية والمعنوية، وما يميز البشر بين بعضهم البعض هو معيار الرشد وميزان الحكمة، كونهما الجزء الأعلى في المستوى الهرمي المعرفي بعد البيانات والمعلومات، وكون العقل أيضا قمة الجسد فسيولوجيا وأوله تشريحيا.

وإعمال القدرات العقلية بعمق التأمل وقوة التفكر ووقفات التدبر لم يكن عشوائيا وعبثيا، بل له مغزى رباني عظيم من لدن خبير حكيم، لصيانة كرامة الإنسان ورسم مصيره الحالي والمستقبلي، وكذلك استشرافا لمصائر من هو مسؤول عنهم ومن عليه ولاية أمرهم في علاقته الترابطية، سواء كان أبا أو أما أو أخا أو زوجا أو مديرا أو مشرفا أو معلما أو طالبا، وغيرهم من مختلف الشرائح المجتمعية التي تكوّن النسيج المجتمعي الكبير. قال تعالى (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك) آل عمران 191.

وعلم النفس المعرفي يبحث تحديدا في النفسيات البشرية وعملياتها العقلية المعرفية، من حيث الانتباه والتركيز والذكاء والإدراك والذاكرة والخزن والاسترجاع، ويتعمق أيضا في إدارة معرفة العمليات التقليدية المبسطة من انصات واستماع وتلبية حاجات واستجابات، وفوق التقليدية المعقدة كالإشارات وانتقال الموجات والذبذبات داخل المخزن المعرفي للعقل البشري.

وهذه العمليات تنتقل بموصلات بطيئة ولها ردات فعل جامدة وانعكاسات متثاقلة في وضع الحلول إذا ما التصقت بشخصية معدومة التأمل والتفكير، فيقال عنها العقلية المحبطة المعرقلة، أو أنها تنتقل بطريقة سريعة وتتعامل باستجابات رفيعة وقدرات بديعة، فيقال عنها العقلية الفذة المنجزة إذا ما تواءمت مع الشخصية المستجيبة للتوجيه الرباني التأملي. ونرى كثيرا ممن يتجسدون هذين النمطين السلبي المثبط أو الإيجابي المنطلق في حياتنا المجتمعية العامة، فالعقلية المتفتحة والمستقبلة لا خوف عليها ولا حزن من جانبها، فهي إيجابية بطبعها ولا تخوض إلا في الحيز الذي يرعاها لتنهض وترعاه.

ومن وجهة نظري السلوكية والمعرفية كثيرا ما نواجه ذلك تحديدا في حياتنا المهنية ومنظماتنا العملية، مما نخشاه من عقلية المسؤول أو المدير أو التنفيذي التي تعشق التعطيل وتصنع العراقيل لكل ما يمكن إنجازه واجتيازه من عمل، بل وتختار بعناية فائقة كل ما من شأنه تأخير التطوير، إما بإبراز الأسلوب البيروقراطي في التعامل مع المعاملات أو بخلق الأعذار التنظيمية كإنشاء اللجان وعقد الاجتماعات التي قد تمتد إلى سنوات دون تحريك لأي من الموضوعات.

كما يصاحب العقلية المعطلة سمات الشخصية المنفرة بأساليب وإسقاطات فعلية مثل «المراوغة والتهرب والمماطلة» أو شفهية مثل «اترك الموضوع يأخذ وقته، لدينا من الوقت ما يكفينا، لماذا العجلة والسرعة»، وهذه العقلية المعطلة لا تستشعر تماما كوارث إهمال التفكير ولا ترحب بأهمية الدور المحوري للعمليات المعرفية الداعمة والمنحة الربانية من حيث قوة الانتباه والإدراك والتركيز، كي تعمل على رفع معدلات الإنجاز والأداء العملي، بل تفوت الفرص على المرؤوسين بحرمانهم اقتناص فرص الوصول الابتكاري للاختراعات، والتوقد الابداعي في المنتجات، فهنالك عقليتان في المنظومة الحياتية، إما عقلية مستنيرة مفكرة ومدبرة، أو عقلية مُعطِّلة بذهنية مُعرقِلة.