محمد أحمد بابا

إلّي فات.. مات!

الاثنين - 20 يونيو 2016

Mon - 20 Jun 2016

في جلسات الصلح وعودة المياه لمجاريها يتبادل الأطراف والمصلحون جُملا معروفة سلفا بأنها كفيلة بختم المسألة ختام مسك أو نهاية خير، فكل الأمور المؤسفة أو السيئة التي كانت تحاصر القلوب بعضها تجاه بعض في حراك استفزازي نحو الانتقام أو القطيعة والحقد أو مجرد العتب تصبحُ كأن شيئا لم يكُن بعد انتهاء تدخل أهل الخير في تقريب وجهات النظر وتأليف النفوس وإعلان موت ما قد فات.

وعلى الرغم من أن الموت رؤية محزنة في وجودها وحتميتها ومصطلحها إلا أن الرغبة الجنائزية هذه مطلوبة بل ومرجوة لدى الطرفين والوسطاء، فالجهد المبذول في هذه المهمة المرموقة كله منصب على إجهاز سريع صوب الأمر الماضي والفائت ليصح أن يطلق عليه ما فات مات.

والعبرة هنا بوسيلة القتل التي ستستخدم في قتل هذا المكروه والبغيض الذي تسبب في تعكير الصفو وتحويل الصداقة لعداء والقرابة لقطيعة والمجاورة لمحنة مستمرة، وأسلحة مثل تبرير الأخطاء وعزو المشكلات لعدم القصد والفهم الخاطئ ربما تُجدي في نوعية معينة من القضايا الإصلاحية بين المتنافرين، وفي أحيان أخرى يمكن للقوم أن يستفيدوا من سلاح (النسيان) الكيميائي العملاق الذي بتدميره المحبوب لكل الإشكاليات بين البشر أصبح في مراتب عليا ضمن تصنيف أسلحة الدمار الشامل لتوتر العلاقات الإنسانية.

والملاحظ أنه بعد انتهاء تلك الجلسات وتبادل الابتسامات والسلامات والنكات بين الأصدقاء الجدد ولعن الشيطان والخروج من سجن الحقد والضغائن وقليل من التنازلات تستمر الأمور على هذا النحو البهيج فترة زمنية قد لا تتعدى ربع الزمن الذي قضته القطيعة والشحناء بين هؤلاء، ليرجع إبليس بأسلحة لا تختلف كثيرا عن وسائل تفريقه السابقة بين الناس لكنها بصورة جديدة تستغل مواطن الضعف وفترة النقاهة التي لم تنته بعد.

عندها يجترُ الطرفان الماضي القريب والماضي البعيد والماضي الأكثر بُعدا، ويتنافسون في تذكر الصغائر والزلات الخفيفة قبل الكبائر والفظائع، ويسردون قصصا وحكايات لسوء النوايا وقلة القيمة وخداع الطرف الآخر لهم ولآمة أصله وفصله في سلسلة طويلة لا نهاية لها، ويستخدمون سلاح النسيان بنفس الطريقة لكن لغرض آخر هو نسيان المصالحة والمعاهدة وتصفية القلوب، ويثبتون لأنفسهم ولغيرهم أن نبش قبور الميت الذي مشوا في جنازته بالأمس أمرٌ لا مفر منه فما فات.. ما مات.

يعتبر كثيرون بأن العقل البشري قادر على تذكر الأشياء السلبية أكثر من الإيجابية بسرعة مهولة وقدرة خيالية تفوق أكبر سرعات أجهزة الحاسب الآلي المتطورة دون عناء أو تعب، وذلك بنقرة واحدة على (زر) الشيطان واجترار الماضي المليء بالأخطاء والمشاحنات، وهذا العقل يعمل بالتالي لجعل ما يملكه من رصيد كبير في تاريخ الآخرين من أخطاء تجاهه أو تجاه نفسه أو الغير وسيلة للانتقام يوما من الأيام باستعمال أساليب الفضيحة والسرد تعبيرا عن كثير من الأعذار جعلته يتخذُ موقفا سلبيا في علاقته مع من يكرهه.

لا تُرزقُ النفوس صفاء ونقاء نحو أخطاء ماضية أو سالفة إلا إذا كانت المسامحة والتنقية للأجواء وعودة المياه لمسارها الطبيعي بسبب الرغبة الحقيقية في البناء والتعاون والاعتقاد الجازم بأن الهجر والمقاطعة والتوتر بين ذوي القربى والجيران والأصدقاء والمعارف لا ينتُجُ عنه سوى سنين تتعطل ووقت يمضي دون تقدم وتحسن في أحوال المجتمعات المتعبة بفعل الظروف، وزادتها الطبيعة الصبيانية هذه بللا في طين لازب، وما فات مات، والشيطان يوما سيموت، ولكن الديان حيٌ لا يموت.. فسامحوني.



[email protected]