عبدالعزيز الخضر

طابور موشيه ديان.. وحكايتنا مع التخلف

السبت - 18 يونيو 2016

Sat - 18 Jun 2016

«لا أخاف من العرب مهما جمعوا من السلاح والعتاد، لكنني سأرتجف منهم إذا رأيتهم يصطفون بانتظام لركوب الباص» - موشيه دايان (عسكري وسياسي إسرائيلي). في بدايات الوعي بالحياة والقراءة، كانت هذه المقولة تردد كثيرا على لسان كثيرين في المجالس والكتابات الصحفية. لا أدري عن مصدرها، ولم أهتم بذلك، لكنها من أكثر المقولات العالقة في ذهني منذ سن مبكرة، وكانت عند ذلك الجيل المثقف مصاحبة لبدايات النقد الذاتي، بعد هزيمة ونكسة 1967. لم يكن يهم مدى صحة هذه المقولة، بقدر ما يهمني انتشارها، وإعجاب الناقلين لها.

بالنسبة لي مع التقدم في الحياة، كنت كلما وقفت في طابور تذكرت هذه المقولة، فالمرحلة الجامعية كانت حياة ممتلئة بالطوابير الطويلة المنتظمة، والمطارات والمطاعم في مدننا، وكل مكان مزدحم تجد فيه طابورا أمامك. مما يخفف من حالة الشعور بأننا شعوب همجية، حيث يستمتع البعض بتغذية هذا الشعور بلغة متعالية. ومع كل تقدم جيد بالتعليم والوعي العربي فإنه ما زالت عندنا مظاهر تخلف عديدة كحركة المرور، والفساد الإداري في بعض القطاعات، والغش التجاري.. وفساد النخبة في مختلف المجالات، وهي تحتاج مساءلة المؤسسة وأدائها قبل الفرد.

ليس عندي مشكلة مع النقد الذاتي والقسوة بذلك، والاستشهاد بأي مقولة، لكن المشكلة عندما تختزل هذه المقولات مشكلة التخلف والتقدم بصورة غير سليمة، مما يشوه هذه المفاهيم التي يجب أن تعتمد على وعي سياسي وإداري لمفهوم التقدم وشروطه. فمثل هذه المقولات تفتت الوعي بالأزمة الحضارية، وتحيله إلى أفراد هلاميين لا يمكن حصرهم، وليس على مؤسسات وقطاعات وجهات ونخب يمكن الإشارة إليها، وقياس أدائها. ولهذا توجد نجاحات حقيقية حتى داخل هذه المساحات الضخمة من التخلف العربي، لدول في بعض المجالات، ومؤسسات وشركات كبرى، تقوم على الفرد العربي نفسه الذي يحمل عبء التخلف الآن.

في حالة التجربة اليابانية، أولى وأقدم التجارب الآسيوية التي جاءت بعدها نجاحات مشابهة لدول أخرى، يشير «شارل عيسى» في مقالة له عن «لماذا اليابان» مقابل فشل التجربة العربية كمصر، نقلا عن مسعود ظاهر في كتاب «النهضة العربية والنهضة اليابانية» حيث استعرض فيها مفارقة تاريخية بأن عددا من الباحثين الأجانب لم يتوقعوا نجاح التجربة اليابانية لأسباب عديدة، حيث أنكر بعضهم على اليابانيين القدرة على إدارة الأعمال بأسس عصرية، نظرا لإغراقهم في الحفاظ على التقاليد الموروثة، ومنهم من رأى أن الياباني «لا يمتلك أي ذكاء في مجال الأعمال». ولأنه يجب أن نصحح طريقة نقدنا التقليدية للتخلف، يمكن الإشارة إلى مقالة تعبر عن هذه الذهنية التقليدية السائدة، حيث كتب فهد عامر الأحمدي بجريدة الرياض يوم الأحد الماضي مقالا بعنوان «الدين معاملة والإسلام تطبيق»، وأشار إلى دراسة تم تداولها منذ فترة على النت «عن أكثر الدول تطبيقا للمبادئ الإسلامية.. اتضح من خلالها أن أكثر الدول تطبيقا لمبادئ الأخلاق الإسلامية لم تكن مسلمة على الإطلاق..»! فكرة هذه الدراسة فيها مشكلة غير موضوعية فسلوك الفرد ليس مستقلا عن الفضاء الذي يوجد فيه. فالسلوك الانضباطي للفرد يعتمد على طبيعة النظام الذي هو فيه، فإذا اشتغل الشخص بشركة ناجحة يكون أكثر انضباطا منه في شركة فاسدة في البلد نفسه، وإذا سار في شارع فوضى سيكون سلوكه فوضويا مقابل شارع آخر، وإذا دخل مطعما فاخرا سيكون سلوكه مختلفا عنه في مطعم أو سوق شعبي غير نظيف، لهذا فحتى راكب السيارة الخليجي يختلف سلوكه من بلد إلى آخر داخل الخليج نفسه!

ثم يشير بأننا «نسمع أكثر من غيرنا مواعظ ودروسا دينية، و3000 خطبة جمعة خلال 60 عاما، ولكننا لم نصبح أفضل الأمـم حتى الآن»، والواقع أن مسألة أن المسلم يسمع آلاف المواعظ في حياته ولا يستفيد، لا علاقة لها بالحضارة وإنما هي توعية أغلبها توعية دينية للنجاة في الآخرة، وحتى سلوكياته التعبدية يقصر فيها مع كثرة هذا الوعظ، فالوعظ نفسه ليس كافيا دون استكمال شروط التقدم.

وبعدها يستحضر المقولة المشهورة «ذهبت للغرب فوجدت إسلاما ولم أجد مسلمين، وذهبت للشرق فوجدت إسلاما ولم أجد مسلمين..» وأصلها للشيخ محمد عبده.

وهي مقولة أعجبت كثيرا من النخب العربية في مراحل سابقة، كمحاولة لنقد الذات بلغة شيخ ديني، لاستنهاض المجتمع وتنويره، وهذا جانب إيجابي لكن الجانب السلبي أنها تشوه مفهومنا للحضارة ومفهومنا للإسلام ذاته وتخلط الأمور ببعضها، فشروط النهضة تنطبق على جميع الأمم كسنة وناموس كوني، فقد يتخلف المجتمع المسلم ويتقدم غيره وبالعكس. ومن المفارقات أن هذه اللغة النقدية التي تمارسها اليوم أعداد كبيرة في مواقع التواصل ممن هم ضد الخطاب الديني بالأصل، ويتصيدون أخطاءه للسخرية منه ومن المجتمع، ومع ذلك فطريقة تفكيرهم بالحضارة هي على طريقة.. تفكير سيد قطب لكن بصورة انتهازية لصناعة السخرية، بعكس رؤية مالك بن نبي حول مفهوم الحضارة في الخلاف المشهور، والتي كان فيها مالك بن نبي أكثر نضجا ووعيا تاريخيا بحقيقة الإسلام والحضارة وشروطها من سيد قطب.

alkhedr.a@makkahnp.com