سعاد المانع رائدة النقد الألسني في المملكة

مقابسات
مقابسات

السبت - 18 يونيو 2016

Sat - 18 Jun 2016

عرفت سعاد غاية النقد الأدبي، ونراها تبدأ رسالتها بهذا القول الذي لم يألف النقد العربي، آنئذ، قراءته إلا عند الآحاد من النقاد، فتقول: «تهتم الدراسات النقدية الحديثة اهتماما بالغا بالتحليل اللغوي للنصوص الأدبية، إذ ترى النص الأدبي هو الأساس، وليست تلك الحقائق المتصلة بحياة المؤلف، أو عصره، أو بيئته، أو الظروف التي أوجدت النص، بل إن المعتقدات أو الأفكار التي يبشر بها الأديب من خلال النص أو ما يدعو إليها، تعد عوامل خارجية على النص الذي هو محور الدراسة... ولهذا فإن دراسة الشعر ينبغي أن تنبع أساسا من دراسة اللغة المكونة له فهي التي توضح ما في الشعر من ثراء ينبع من داخل النص ولا يفرض عليه من الخارج».

وليكن القارئ على ذُكْر من أن هذا الكلام قيل في عام 1398هـ =1978م، وأن هذا الكلام الذي اعتاده القارئ اليوم، ما كان ليؤمن به في ذلك العهد إلا فئة قليلة من النقاد والدارسين، منهم الباحثة السعودية الشابة، وأغلب الظن أن سعاد المانع كانت تحس أنها ترود طريقا جديدا لم تسلكه الأرجل، فهي تذكر قارئها، منذ مقدمتها، أن هذا النوع من النقد ليس المرجو منه أن يحكم على الأثر الأدبي بالجودة أو الرداءة، وكل غايته أن يتعرف النص، «ومن خلال القراءة المتأنية التي تسبر أغوار النص، يمكن أن يظهر ما في النص من غنى واحتمالات متعددة تفرضها اللغة التي تؤلف هذا النص».

ألم أقل: إن هذا الضرب من النقد جديد لم يألفه النقاد ولا القراء آنئذ؟

ربما أحس القارئ الذي يتدبر ما يقرأه أن سعاد المانع كأنما كانت تقف في وجه سيل من الدراسات النقدية التي أضحى الخروج عليها صعبا، ولو أراد الباحث ذلك. وأنَّى لها أن تنقل عينيها عن تلك الأكوام من الدراسات التي كل شأنها أن تبحث في الشاعر عن أصله وفصله، وقبيلته التي ينتسب إليها، وما كان لها من سابق مجد، ثم تخوض في العصر، فإذا ما أتمَّت ذلك، وبقي فيها فضل قوة، تكتب كلمات مكرورة غامت ملامحها لكثرة ما اعتورها الباحثون، ثم ها هي ذي الباحثة السعودية الشابة تريد أن تتمرد على منهج الأشياخ، وأين؟ في جامعة القاهرة! فتدرس شاعر العربية الأكبر المتنبي دراسة لا تخرج فيها عن النص، حتى إذا نوت ذلك انتخبت من شعره «السيفيات»، فتوقفت عندها، ثم تأملتها تأمل ناقد بيده منهج «علمي» يحصي فيه «الألفاظ التي يكثر تكرارها في السيفيات»، رجاء أن تعرف «المزية» التي عليها الشاعر حين استعمل هذه الكلمات دون غيرها، و»مزية» المتنبي إنما هي مقدار شعريته، أما حياته، وأما عصره، وأما شخصيته، فلا يعني الناقدة من ذلك شيء، «فكل ما يعنينا هنا هو مجال أفكاره البارزة في الشعر الموجود بين أيدينا. إذ إن هذه الألفاظ وما تحويه من دلالات مختلفة هي ما تجعل للشاعر عالما خاصا يختلف قليلا أو كثيرا عن عوالم الشعراء الآخرين، وهي ما قد يمدنا بشيء من الوضوح عن رؤية الشاعر للأشياء، على أن هذا الوضوح لا يتأتى إلا من خلال ملاحظة استخدام الألفاظ لدى شعراء سابقين على عصر المتنبي أو تالين له أو معاصرين».

لم تكتف دراسة سعاد بالإحصاء، ولكنها رمت من وراء هذا المنهج الكمي أن تقف على «مزية» الشاعر، فأتبعت الإحصاء، أو التحليل، التفسير والتأويل، ولم ترتهن إلى ما أوتيته من قدرة على القراءة والتمييز، ولكنها تعلمنا أنها ستجوس في أثناء المعجمات ودواوين اللغة وكتب النقد، وستستثير كلمات الشعراء، ممن سبق المتنبي أو عاصره أو جاء في أثره، حتى تعرف ما يميزه عن سواه، فإذا ما تم لها ذلك، جعلت تقرأ شعره، وتستخرج ما فيه من معان، فعسى أن تتهدى إلى مقدار وفائه لذاكرته الشعرية، ومقدار خروجه على تلك الذاكرة وامتيازه من شعرائها. كانت سعاد المانع تعرف أنها تكتب موضوعا جديدا كل الجدة، وكانت تعرف أن الطريق الذي سلكته غير موطأ، وأنها إنما تخوض «تجربة جديدة في دراسة التراث»، وهي في زمنها ذلك البعيد لا تكاد تظفر إلا بدراسات ذوات عدد اتخذ فيها أصحابها «الوقوف عند النص منهجا لها»، منها دراسة لطفي عبدالبديع «الشعر واللغة»، ودراسة مصطفى ناصف «قراءة ثانية لشعرنا القديم»، ودراسة محمود الربيعي «قراءة الرواية»، فهذه الدراسات الثلاث «تمثل نوعا جديدا من النقد في مجال الأدب العربي – يتخذ النص أساسا يرتكز عليه»، ورابعة هذه الدراسات التي اعتمدت المنهج اللغوي في النقد أداة لها دراسة علي عزت «اللغة والدلالة في الشعر»، ولعل هذه الدراسة الأخيرة مما سكت عنه النقد الأدبي الحداثي، مع أنها من بواكير هذا النقد، حيث صدرت سنة 1976م.

والحق أن سعاد المانع في دراستها هذه «المسكوت عنها»، أنبأت عن معرفة أصيلة مبكرة بمناهج النقد تلك التي لا تبرح النص ولا تغادره، وقرأنا في «سيفيات المتنبي» فهما صحيحا لما انتهى إليه رواد «النقد الجديد» في الغرب، ممن عرض لآرائهم ديفيد ديتشس في كتابه «مناهج النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق»، ومعالجة مبكرة لمسائل «النقد الحداثي الألسني»، ولا سيما «الأسلوبية الإحصائية»، عند الجلة من روادها الغربيين وبالأخص ستيفان أولمان، كما يظهر كتابها معرفة بأعلام من النقاد الغربيين الآخرين ولا سيما الناقد والفيلسوف الفرنسي جان كوهين، صاحب كتاب «بنية اللغة الشعرية»، الذي عرفه النقد العربي بأخَرَةٍ، ونلقى منهم أسماء صاموئيل ليفين، وبالمر، ووينفريد ناوتني، فإذا ما أتمت كتابها عادت فأذكرت قارئها حرصها على أن يكون نقد الأدب متحليا بالعلم «حتى تكون أحكامنا النقدية ودراساتنا الأسلوبية لشعرائنا الذين يعتز بهم التراث الأدبي، أحكاما ودراسات مبنية على أساس علمي دقيق حديث».

أما نحن، قراء كتابها، فيكفينا أن نعرف أي يد بيضاء أسدتها سعاد المانع إلى حركة النقد في بلادنا، فكانت، بحق، أول من أرسى دعائم النقد الألسني في المملكة، وإن سكت عن هذه «الرائدة» من كان من مصلحته السكوت عن هذه الأولية!

سعاد المانع

  1. أول من أرسى دعائم النقد الألسني في المملكة

  2. طريقها للوصول لذلك كان صعبا لأنها:




  • تقف في وجه سيل من الدراسات النقدية التي أضحى الخروج عليها صعبا

  • تتمرد على منهج الأشياخ، وأين؟ في جامعة القاهرة!

  • قلة الدراسات الألسنية في زمنها