أحمد الهلالي

طاقة مهدرة يا وزارة العمل والتنمية الاجتماعية!

السبت - 18 يونيو 2016

Sat - 18 Jun 2016

في محطة على طريق الجنوب، الساعة الثانية والنصف ظهرا، امرأة بدينة تلتحف عباءتها السوداء، تدافعت حتى جلست أمام (الكافتيريا) على البلاط الحار، وضعت طفلها جوارها في ظل ضئيل بالكاد استوعبه، ثم فكت عنه الأغطية الواقية من الشمس، وأخرجت (رضاعة) حليبها أقل من النصف، يشهد مكيف سيارتي على المشهد الذي استوقفني مرغما، فضربت عرضا بكل أحاديث الإعلام والرفاق عن تحايل المتسولين، فما رأيته يفوق كل تعبير.

لا يشك عاقل أن الله خلق الناس مختلفين، فأعطى أو حرم من يشاء لحكمة يعلمها، ومهما كانت الجهود المبذولة، والقنوات التي تحاول اجتثاث حاجة الناس، فإن دولاب الظروف يدور ليصنع حالات جديدة، ومن الجور أن نعمم حكم (النصب) على كل محتاج، فنضعهم جميعا في سلة واحدة، فالمعلوم أن كل ظاهرة اجتماعية أو ثقافية معرضة لاستغلال أصحاب النفوس الضعيفة من الانتهازيين.

حين نلاحظ توقيت خروج المرأة وطفلها بحثا عن الرزق، سترق القلوب بفعل (جين) الرحمة الذي أودعه الله فيها، وربما هناك من يتعطل جينه وتسفر رؤاه عن ذكائها في استدرار الإنسانية باختيار الوقت الصعب، وحمل الطفل والجلوس في الشمس، لكن لو فكر عميقا لوصل إلى أن الإنسان القانع يترك العديد من الفرص المدرة؛ لأن الله أغناه، ولنتأمل (الكدادين) على سياراتهم الخاصة، فمعظمهم لا يزاول (المكدة) إلا ما دامت حاجته قائمة، ثم يتركها باتساع رزقه، والمثل الشعبي يقول (المحتاج يركب الصعب).

تلك المرأة المسكينة أخرجتها الحاجة، وأخرجت غيرها، وأجبرتها على سفح ماء وجهها، والتضحية براحتها وراحة وصحة طفلها، لذا فإن محاكمة نواياها من العبث، خاصة حين تتكشف لنا حالات مشابهة أوصلها حظها إلى إحدى قنوات الإعلام بأنواعه، فيتدافع المحسنون لسد حاجتها، لكني هنا لا أبحث عن المحسنين، ولا محاكمي النوايا، ولا الراحمين، بل أبحث عن وزارة العمل والتنمية الاجتماعية، وفرق مكافحة التسول، فبماذا يكافحونه: بالسجن مثلا؟ أم بأخذ التعهدات؟ أم بإحالة المحتاج إلى الضمان الاجتماعي أو جمعية خيرية؟

حين نتذكـر الحديث النبـوي عن الرجـل الذي سـأل النبي صلى الله عليه وسلـم صدقـة فأمـره أن يأتي من بيته ببعـض متاعه، فباعـه له وأمره أن يشتري فأسا ويحتطب ويبيع، سنقف على أهميـة هذا التطبيـق، وأتذكـر أيضـا لافتة ضخمة «للشؤون الاجتماعية» بذات المضمـون، ربما هي (ساعـدْه ليستخـدم ساعدَه) فهذا ما يجب أن تبادر إليه الوزارة والجمعيات الخيرية بجرأة، لأولئـك المعوزين الذيـن أجبرتهم ظروفهـم أن يسألوا الناس إلحافا، فماذا سيكلـف الوزارة افتتاح مصنـع للخياطـة، تعمل فيه هؤلاء النسوة، أو بناتهن بأجر شهري، وتنفق من ريعه على أجورهن، أو تفتتح مصنعـا للأثـاث يعمل فيه الرجال والشباب المعوزون عملا شريفا يدر عليهم دخلا كريما ويسـاعد في التنميـة، فلا طائل من الجمعيات الخيرية التي تستجدي المحسنين الملايين، لتشتري بها أقوات أسر، غالبا ما تُرمى لأنها من الأنـواع الرديئة أحيانا، أو لا تكفي حاجـة الأسرة، وإني لأعلم كما يعلم غيري أن سماسرة يتموقعـون بين المحسنين والمؤسسات الخيرية، ينهبون دون وجه حق مبالغ تصل إلى ثلث الصدقات، تعلم المؤسسة الخيرية عنها لكن المحسنين لا يعلمون، والمؤكد أن الوزارة وجمعياتها تستطيع أن تؤسس قاعدة بيانات للمحسنين، وآليات توجههم إلى ضخ صدقاتهم عبر قنوات مضمونة لا يمسها الجشعون.

نحن بحاجة إلى مشاريع خيرية ذكية، ولسنا بحاجة إلى أعطيات وزكوات تأخذ طريقها إلى جيوب التجار لشراء مواد استهلاكية، ولا يصل الفقراء منها إلا الفتات، وتظل مشاكل الأسر قائمة، فإن سدت الصدقات أفواههم، قد لا تقي جلودهم ولا أساسيات الحياة المعاصرة بتعقيداتها، فالبلد اليوم يعج بالخياطين، والمشاغل النسائية، ومعارض أثاث ومناجر وورش حدادة وغيرها، وكل هذه المحلات ترسل طلبياتها إلى مصانـع وورش غالبـا يديرها وافدون في استراحات ومنازل بعيـدة عن أعين الرقابة، ولو بادرت الوزارة إلى تبني هذه المشاريع المهمة اقتصاديا، ودربت عليها المعوزين نساء ورجالا بمعونات مجزية تحفزهم للانخراط في مصانعها المنتشرة في أرجاء البلاد، ووجهت الجمعيات الخيرية إلى ذلك في ورش صغيرة؛ لأقالت عثرات المعوزين وحفظت ماء وجوههم، وقدمت للوطن خدمات جليلة، أقل ما فيها الحد من استقدام العمالة لهذه الأغراض البدائية، وإني لأستبشر أن تتجه الوزارة وجمعياتها إلى ذلك في ظل تفاؤلنا بالتحول الوطني.