محمد أحمد بابا

هندسة الفتوى

الأربعاء - 08 يونيو 2016

Wed - 08 Jun 2016

احتياجُ الإنسان للإجابة على استفساراته مثل احتياجه للهواء، وعندما تكون متعلقة بالدين يكون الأمر أكثر إلحاحا فيما يتعلق بالواجبات بالذات، وقلّما تكون الثقافة الإسلامية حاضرة عند رغبتنا في المعرفة، إمّا لأنّنا نسينا ما تعلّمناه أو غير متأكدين من صحته.

وأسهلُ شيء على الناس أن يكونوا محلّلين رياضيّين في غمضة بصر ثم اقتصاديين فناشطين سياسيّين حتى تصل بهم فنون الكلام لأن يلبسوا عمائم الفتوى ويفركوا لحى الوعظ في زمن «كُل مِنْ إِيدو إِلُو» أو «كُلْ مِن فَمّو إِلُو» لكنّ آذاننا ليست لنا.

وكما يتناقش الجلساء عن همومهم ونميمتهم فخاتمة «الحَلى» عشرات الفتاوى التي سمعوها من غيرهم أو سوّل لهم الشيطان إياها أو قرؤوها وسمعوها في فضاء التواصل الاجتماعي، لنرى شخصيّة المفتي وفلسفة الإفتاء بادية في كلّ منادمات الأصحاب والهواتف والساحات كتوابل طبخ كلامي بامتياز.

نتناقل الفتاوى كما نتناقل الإشاعات والنُّكات في نهج غير سوي تسير عليه هندسة الفتوى في أجوائنا الثقافية.

فالإمام مالك يقول «ما أفتيت في مسألة حتى سألتُ ربيعة ويحيى بن سعيد فأمرَاني، ولو نَهَيَاني لانتهيْتُ» ويقول الإمام أحمد «لا ينبغي للرجل أن يفتي حتى يلتزم الكفاية وإلا مضغه الناس، ويعرف الناس جيدا وإلا راج عليه المكر والخداع والاحتيال»، وكلّ كلام العلماء الأوائل على هذا النّحو من الحذر، ونحن حبل فتاوينا على غارب ألسنتنا.

في الساحة اليوم الفتوى مجانية، والفتاوى من غير طلب، والجواب جاهز في طرف اللسان قبل ذهن المفتي، ومن المهنيّين من يستطيع إفتاءك قبل أن تكمل سؤالك، ومنهم المبدع الذي يفتيك عمّا يجول بخاطرك، فلا مساعد ولا مستشار ولا رجوع ولا مواعيد ولا تأجيل، والفتوى مثل طبّ الطوارئ أوّل ما يتعلّمه المتّجه نحو كتب الدين، وليس أسهل من التّحريم والمنع عند البعض، وليس أمتع من التحليل وافعل ولا حرج عند البعض «وحُطّها في رقبة عالمْ واخرجْ سالمْ» وكأنّ الفتوى خصومة «الحرامية».

وما أكثر الحِشريّة في الاستفتاء، فمتلازمة من يفتي أن لا تفوته فرصة تعليق أو تصريح أو أيّ كلام، فلا بدّ من رأي حصيف أو خفيف أو ظريف في كلّ مسألة وكلّ خبر ولو لم يتعلق بالدين أو السلوكيات التشريعية.

فمع العواصف الرملية ستسبق فتوى جمع الصلوات أو التيمّم من الغبار وهو في الهواء بيان مصلحة الأرصاد، ومع البراكين في جبال ما تأتي الفتوى قبل خبير الزلازل بأنّ عبادة النار هي من طقوس المجوس والاستعاذة من النار واجبة والصبر مفتاح الفرج ونار جهنّمَ أشدّ حرّا.

وحين يرفع التّجار الأسعار دون مبرر يفتيهم أئمة مساجد بأنّ البائع له حرّية تقدير سعر سلعته والبيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا وفي التجارة تسعة أعشار الرزق والمهم هو إخراج الزكاة آخر العام وزيادة الدّخل تزيد في الزكاة المُخرجة وهذا مفيد للفقراء والمساكين، وما فتاوى رمضان من ذلك ببعيد.

المسؤولون عن هندسة الفتوى وتجدّدها وإعادتها لقيمتها اللائقة بها وهيبتها العظيمة الموروثة من اعتمادها على الوحي والمصادر الشرعية المقدّسة هم المعنيّون بأن يعيدوا النظر في هذه البضائع المزجاة والفتاوى الملقاة دون رقيب، وإلا سنجد طفلا يفتي طفلا بأنّ هذه اللعبة حرام وتلك اللعبة سنة وهذه المعلمة فاسقة وذلك المعلم منافق.

ولقد سمعتُ قبل سنوات من مؤذن مسجدنا الذي لا يحسن القراءة ولا الكتابة بأنّه يحمد الله تعالى أنِ استطاع إعادة امرأة جاره لزوجها حيث أفتاهما بأنّ طلاقه الرّابع لها لا يقع.