الشوراقراطية واقتباساتنا الفكرية
الأربعاء - 01 يونيو 2016
Wed - 01 Jun 2016
قال محمد رشيد رضا أحد دعاة الإصلاح في بداية القرن العشرين عن (الشورى): «لا تقل أيها المسلم: إنَّ هذا الحكم أصل من أصول ديننا، فنحن قد استفدناه من الكتاب المبين، ومن سيرة الخلفاء الراشدين، لا من معاشرة الأوروبيين، والوقوف على حال الغربيين، لا تقل ذلك؛ فإنه لولا الاعتبار بحال هؤلاء الناس لما فكرتَ أنت وأمثالُك بأن هذا من الإسلام، ولكان أسبق الناس إلى الدعوة إلى إقامة هذا الركن علماء الدين في الآستانة وفي مصر ومراكش، وهم الذين لا يزال أكثرهم يؤيد حكومة الأفراد الاستبدادية... ولما كان أكثر طلاب حكم الشورى المقيد هم الذين عرفوا أوروبا والأوروبيين».
هذا النص من محمد رشيد رضا يعبر عن بدايات عمليات الاقتباس في الفكر السياسي الذي مارسه المشتغلون بالفكر الإسلامي، إذ استفاق العالم الإسلامي في بدايات القرن العشرين على هوة تخلفه في مقابل تقدم الغرب، ومن يومئذ إلى الآن عملية الاقتباس الفكري قائمة على قدم وساق، لكن الإشكال الذي واجه المعنيين بالفكر الإسلامي آنذاك هو كيفية مواجهة الاستعمار وفي الوقت نفسه الاقتباس من أصحابه فكريّا، فالإقرار له بالتفوق الحضاري هو ارتهان لحضوره الاستعماري.
وكان الحل أن تجري عملية الاقتباس مع إنكار أولوية الغرب الاستعماري بتلك الأفكار المقتبسة، فأصبحت كل فكرة سياسية حديثة نقتبسها نبحث عن جذور لها في تراثنا، فـ(الديمقراطية) ليست من إنتاج الغرب بل هي موجودة في تراثنا باسم (الشورى)، و(الفصل بين السلطات) كانت من أبجديات تراثنا؛ فالسلطان ليس له سلطة على القاضي، و(البرلمانات) التي تمثل سلطة الشعب لها أصل في تراثنا، ويعبر عنها بمفهوم (أهل الحل والعقد)، و(الانتخابات) نفسها لها أصل في التراث، ويدلل عليها باستشارة عبدالرحمن بن عوف أهل المدينة في المفاضلة بين عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب في تولي الخلافة، و(حرية التعبير) لها أصل في تراثنا، ويُفتش عن بعض الحوادث في التراث للتدليل على أننا سبقنا الغرب إليها، و(مؤسسات المجتمع المدني) سبقنا الغرب إليها؛ إذ كانت لدينا تنظيمات لأصحاب المهن، وهكذا تجري عملية التأصيل لما نقتبسه من نظم وأفكار حتى يظهر سبقنا الحضاري لكل الأنظمة والأفكار التي تقوم عليها فلسفة الدولة الحديثة.
وهذا التأصيل أقرب للخداع؛ فهو أشبه بعملية ترقيع ثوب قديم برقع جديدة، وهي- أيضا- إساءة للتراث، وتعويق لعملية الإصلاح الجذري الذي نحن بأمس الحاجة إليه، ولا يعيب تراثنا في الفكر السياسي ألا تكون فيه هذه الأنظمة والأفكار؛ فتراثنا يعبر عن مرحلة تاريخية لها ظروفها ومواضعاتها ومنطقها، فالنظم والأفكار في مجال الدولة والسلطة في تراثنا خاضعة لمنطق عصرها، وليس الإشكال في تلك النظم والأفكار، بل الإشكال استيرادها لعصر له منطقه ومواضعاته وظروفه ثم حينما نكتشف أن فيها قصورا نرقعها برقع من فكر حضارة أخرى.
وأساس المشكلة في الفكر الإسلامي الحديث فيما يخص تنظيم السلطة التعامل معه على أنه من الثابت الديني، وليس من المتغير الخاضع لمنطق العصر، ولهذا تجد كثيرين من المشتغلين بالفكر الإسلامي يستمد تنظيراته في الفكر السياسي من كتب (الأحكام السلطانية) و(السياسة الشرعية) في التراث، وهي كتب كتبت وفق منطق عصرها وبناء على مواضعات السياسة آنذاك، وقد تفطن ابن خلدون إلى أن الفكر السياسي ومواضعته لا ينتمي إلى الثابت الديني، ولهذا فسَّر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «الأئمة من قريش» على غير ما اعتاد الفقهاء، فالفقهاء استنادا لهذا الحديث جعلوا القرشية شرطا لتولي السلطة، وأما ابن خلدون فبناء على فهمه لانتماء السلطة لعالم المتغير فسَّر الحديث بأنه إشارة للعصبية التي تقوم عليها السلطة، فحينما كانت العصبية لقريش كانت السلطة لهم، وحينما زالت عصبية قريش أصبحت السلطة مشروعة لكل من كانت له عصبية يتحقق بها قوام السلطة والملك.
هذا الفهم الذي توصل إليه ابن خلدون هو ما يفترض أن يتحقق في الفكر الإسلامي في مجال السياسة، وهو الإيمان بمنطق العصر اليوم الخاص لفلسفة الدولة الحديثة بعيدا عن فقه السياسة المبني على الأحكام السلطانية في التراث.
[email protected]
هذا النص من محمد رشيد رضا يعبر عن بدايات عمليات الاقتباس في الفكر السياسي الذي مارسه المشتغلون بالفكر الإسلامي، إذ استفاق العالم الإسلامي في بدايات القرن العشرين على هوة تخلفه في مقابل تقدم الغرب، ومن يومئذ إلى الآن عملية الاقتباس الفكري قائمة على قدم وساق، لكن الإشكال الذي واجه المعنيين بالفكر الإسلامي آنذاك هو كيفية مواجهة الاستعمار وفي الوقت نفسه الاقتباس من أصحابه فكريّا، فالإقرار له بالتفوق الحضاري هو ارتهان لحضوره الاستعماري.
وكان الحل أن تجري عملية الاقتباس مع إنكار أولوية الغرب الاستعماري بتلك الأفكار المقتبسة، فأصبحت كل فكرة سياسية حديثة نقتبسها نبحث عن جذور لها في تراثنا، فـ(الديمقراطية) ليست من إنتاج الغرب بل هي موجودة في تراثنا باسم (الشورى)، و(الفصل بين السلطات) كانت من أبجديات تراثنا؛ فالسلطان ليس له سلطة على القاضي، و(البرلمانات) التي تمثل سلطة الشعب لها أصل في تراثنا، ويعبر عنها بمفهوم (أهل الحل والعقد)، و(الانتخابات) نفسها لها أصل في التراث، ويدلل عليها باستشارة عبدالرحمن بن عوف أهل المدينة في المفاضلة بين عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب في تولي الخلافة، و(حرية التعبير) لها أصل في تراثنا، ويُفتش عن بعض الحوادث في التراث للتدليل على أننا سبقنا الغرب إليها، و(مؤسسات المجتمع المدني) سبقنا الغرب إليها؛ إذ كانت لدينا تنظيمات لأصحاب المهن، وهكذا تجري عملية التأصيل لما نقتبسه من نظم وأفكار حتى يظهر سبقنا الحضاري لكل الأنظمة والأفكار التي تقوم عليها فلسفة الدولة الحديثة.
وهذا التأصيل أقرب للخداع؛ فهو أشبه بعملية ترقيع ثوب قديم برقع جديدة، وهي- أيضا- إساءة للتراث، وتعويق لعملية الإصلاح الجذري الذي نحن بأمس الحاجة إليه، ولا يعيب تراثنا في الفكر السياسي ألا تكون فيه هذه الأنظمة والأفكار؛ فتراثنا يعبر عن مرحلة تاريخية لها ظروفها ومواضعاتها ومنطقها، فالنظم والأفكار في مجال الدولة والسلطة في تراثنا خاضعة لمنطق عصرها، وليس الإشكال في تلك النظم والأفكار، بل الإشكال استيرادها لعصر له منطقه ومواضعاته وظروفه ثم حينما نكتشف أن فيها قصورا نرقعها برقع من فكر حضارة أخرى.
وأساس المشكلة في الفكر الإسلامي الحديث فيما يخص تنظيم السلطة التعامل معه على أنه من الثابت الديني، وليس من المتغير الخاضع لمنطق العصر، ولهذا تجد كثيرين من المشتغلين بالفكر الإسلامي يستمد تنظيراته في الفكر السياسي من كتب (الأحكام السلطانية) و(السياسة الشرعية) في التراث، وهي كتب كتبت وفق منطق عصرها وبناء على مواضعات السياسة آنذاك، وقد تفطن ابن خلدون إلى أن الفكر السياسي ومواضعته لا ينتمي إلى الثابت الديني، ولهذا فسَّر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «الأئمة من قريش» على غير ما اعتاد الفقهاء، فالفقهاء استنادا لهذا الحديث جعلوا القرشية شرطا لتولي السلطة، وأما ابن خلدون فبناء على فهمه لانتماء السلطة لعالم المتغير فسَّر الحديث بأنه إشارة للعصبية التي تقوم عليها السلطة، فحينما كانت العصبية لقريش كانت السلطة لهم، وحينما زالت عصبية قريش أصبحت السلطة مشروعة لكل من كانت له عصبية يتحقق بها قوام السلطة والملك.
هذا الفهم الذي توصل إليه ابن خلدون هو ما يفترض أن يتحقق في الفكر الإسلامي في مجال السياسة، وهو الإيمان بمنطق العصر اليوم الخاص لفلسفة الدولة الحديثة بعيدا عن فقه السياسة المبني على الأحكام السلطانية في التراث.
[email protected]