إذا ما عدونا جدة إلى الرياض، وجعلنا نتلمس أثرا للنقد الألسني فيها، استبانت لنا خصيصة لها شأنها، فالرياض، وليكن حديثنا الآن عن جامعة الملك سعود، عرفت هذا الضرب من النقد، في وقت مبكر، نستطيع أن نقربه فنرفعه إلى عام 1976م، حين اقترح الدكتور شكري عياد، وكان آنئذ أستاذا في الجامعة، إدخال مادة "علم الأسلوب" في مناهج قسم اللغة العربية وآدابها، فأسس منهجها، ووضع علاماتها، فأتيح لهذا اللون الجديد من النقد أن ينمو، وأن يتأثر به الطلاب بعيدا عن الصخب والضجيج.
وقدر لهذا الكلم الجديد أن يدرج ويعيش في بيئة سليمة، ولم يثر جلبة ولا صخبا، حتى إذا استوى على سوقه وأثمر وأينع، وآتى أكله دفع عياد بثمرة ما حاضر به طلابه إلى المطبعة، فشهدت الرياض، مولد كتابه "مدخل إلى علم الأسلوب"1982م، ثم ما لبث أن أخرج في الرياض نفسها كتابه "اتجاهات البحث الأسلوبي" 1985م.
والكتاب، إذا أردنا بيانا لمحتواه، انطوى على سبع مقالات مترجمة لرواد الدرس الأسلوبي في العالم، من أمثال شارل بالي وليو شبتسر وستيف أولمان، وميكل ريفاتير، وثورن، وشمتّ، وميلان يانكوفتش، وتمامه دراسة لشكري عياد نفسه دعاها "البلاغة العربية وعلم الأسلوب".
لم يكن مدخلا إلى علم الأسلوب غريب الوجه واليد واللسان، ساق مؤلفه عباراته هادئة متئدة، يجتمع فيها الكلم الغربي بالكلم العربي، دون أن تجد صعوبة في التهدي إلى هذا وذاك، وكان المؤلف، وهو الناقد البصير، يهمه أن يقدم إلى القارئ العربي نمطا جديدا من الدرس، يضيفه إلى ما ألفه من درس البلاغة، حتى إذا كان له ذلك اجتمعت له عدة قوية لقراءة النصوص الأدبية، غذاها إيمانه بأن نقد الأدب وقراءة النصوص إنما يؤولان إلى أمرين هما "منهج العلم" و"ذوق الناقد"، ونزعة "الذوق" قديمة أصيلة لديه، عرفها أول اختلافه إلى جامعة القاهرة، طالبا يتحين دروس شيخيه أمين الخولي وأحمد الشايب، ثم ما لبث أن اشتهر بها، فاتخذها طريقة له ومنهجا.
رجا عياد من دروسه التي صارت كتابا أن يصل بين الجديد الوافد والقديم التليد، وحمله على ذلك خبرة اجتمعت له من معاشرة درس البلاغة العربية وتدريسها، فلما ألقى بصره إلى جديد النقد، عناه أن يفيد منه، فأنشأ كتابه، ولم يكن ليعنيه، وهذا كلامه، أن يغري قارئه "ببضاعة جديدة مستوردة"، وهو لا يصدر "عن رغبة في الحداثة أو التحديث، فضلا عن أن يحاول فتنة الناس ببدعة جديدة من بدع الثقافة الغربية، ولكنه يحاول أن ينشئ في ثقافتنا العربية علما جديدا مستمدا من تراثها اللغوي والأدبي، ومستجيبا لواقع التطور في التراث الحي، ومستفيدا من دراسات أهل الغرب بالقدر الذي يمكن من رؤية التطور المعاصر رؤية تاريخية، وقراءة التاريخ قراءة عصرية".
والحق أن لهجة التواضع، هذه التي اتسم بها عياد، لا نلقاها في الكتاب الذي وضعه، بعد أن عدا الستين، ولكننا نلقاها في غير كتاب من كتبه، وبعضها يغور في الزمن إلى عهد الشباب والاكتمال، فهذا الباحث الذي أُتيح له في شبابه المبكر درس أثر كتاب الشعر لأرسطو في البلاغة العربية، يرى أن حرفته التي يقتات منها هي التدريس في الجامعة، أما نقد الأدب فيحب أن يكون فيه "ناقدا هاويا"، وتراه يتلطّف إلى قارئه في كتابه ذي العنوان المتواضع "تجارب في النقد"، ويسأله ألا ينتظر منه كلاما عليه مسوح من النظرية، ولا أن يسوق إليه ألطافا من المصطلحات، فذلك كله مرجو من النقاد "المحترفين"، أما عياد، فأستاذ جامعي، مهمته تدريس الطلاب، حتى إذا ظفر بفضل وقت جعل يكتب في نقد الأدب، نقد هواية لا احتراف.
حينها كان عياد في عهد الشباب، فلما أصبح من شيوخ النقد، ذرت في سماء الثقافة العربية شمس المناهج النقدية الغربية الحديثة، حتى إذا ألقى بصره رأى في القاهرة، غير بعيد منه، صخبا وضجيجا واحتفالا، فلما تقصى الخبر، عرف أن النقاد المصريين الشبان، ومنهم التلميذ والمريد، جعلوا يقيمون الأفراح والليالي الملاح بإطلالة "البنيوية"، ويخيل إلي أنه ما لبث أن ابتسم وأشفق على تلاميذه، فلم يخض في "البنيوية" مع الخائضين، ولم يتقها، وكان أدناهم إلى القصد، وما هي حتى انقطع إليها، مدة يسيرة، باحثا ومفتشا، حتى إذا أصدر "المحتفلون" عددا جديدا من مجلة "فصول"، وكانت ترفل في زينتها وتزهو بشبابها، وما منهم إلا من يلهج بهذا الوافد الجديد، تراهم مسرعين، مخافة أن يسبقوا إلى القول في أصل من أصوله، أو فرع من فروعه حتى كان ذلك، أنشأ مقالته الهادئة الساخرة العميقة "موقف من البنيوية"، وكان موقفه منها موقف العارف، وعسى أن تكون هي المقالة الهادئة في بحر من الضجيج، فلما ألقى عصاه في الرياض، مرة أخرى، لم يشأ لطلابه أن تخلبهم تلك "الصرعات"، ولم يرد لهم أن يتقوها، فألقى إليهم بدروسه، وعساه كان يردد كلمة شيخه أمين الخولي "إن أول التجديد هو قتل القديم بحثًا وفهمًا ودراسةً".
وقدر لهذا الكلم الجديد أن يدرج ويعيش في بيئة سليمة، ولم يثر جلبة ولا صخبا، حتى إذا استوى على سوقه وأثمر وأينع، وآتى أكله دفع عياد بثمرة ما حاضر به طلابه إلى المطبعة، فشهدت الرياض، مولد كتابه "مدخل إلى علم الأسلوب"1982م، ثم ما لبث أن أخرج في الرياض نفسها كتابه "اتجاهات البحث الأسلوبي" 1985م.
والكتاب، إذا أردنا بيانا لمحتواه، انطوى على سبع مقالات مترجمة لرواد الدرس الأسلوبي في العالم، من أمثال شارل بالي وليو شبتسر وستيف أولمان، وميكل ريفاتير، وثورن، وشمتّ، وميلان يانكوفتش، وتمامه دراسة لشكري عياد نفسه دعاها "البلاغة العربية وعلم الأسلوب".
لم يكن مدخلا إلى علم الأسلوب غريب الوجه واليد واللسان، ساق مؤلفه عباراته هادئة متئدة، يجتمع فيها الكلم الغربي بالكلم العربي، دون أن تجد صعوبة في التهدي إلى هذا وذاك، وكان المؤلف، وهو الناقد البصير، يهمه أن يقدم إلى القارئ العربي نمطا جديدا من الدرس، يضيفه إلى ما ألفه من درس البلاغة، حتى إذا كان له ذلك اجتمعت له عدة قوية لقراءة النصوص الأدبية، غذاها إيمانه بأن نقد الأدب وقراءة النصوص إنما يؤولان إلى أمرين هما "منهج العلم" و"ذوق الناقد"، ونزعة "الذوق" قديمة أصيلة لديه، عرفها أول اختلافه إلى جامعة القاهرة، طالبا يتحين دروس شيخيه أمين الخولي وأحمد الشايب، ثم ما لبث أن اشتهر بها، فاتخذها طريقة له ومنهجا.
رجا عياد من دروسه التي صارت كتابا أن يصل بين الجديد الوافد والقديم التليد، وحمله على ذلك خبرة اجتمعت له من معاشرة درس البلاغة العربية وتدريسها، فلما ألقى بصره إلى جديد النقد، عناه أن يفيد منه، فأنشأ كتابه، ولم يكن ليعنيه، وهذا كلامه، أن يغري قارئه "ببضاعة جديدة مستوردة"، وهو لا يصدر "عن رغبة في الحداثة أو التحديث، فضلا عن أن يحاول فتنة الناس ببدعة جديدة من بدع الثقافة الغربية، ولكنه يحاول أن ينشئ في ثقافتنا العربية علما جديدا مستمدا من تراثها اللغوي والأدبي، ومستجيبا لواقع التطور في التراث الحي، ومستفيدا من دراسات أهل الغرب بالقدر الذي يمكن من رؤية التطور المعاصر رؤية تاريخية، وقراءة التاريخ قراءة عصرية".
والحق أن لهجة التواضع، هذه التي اتسم بها عياد، لا نلقاها في الكتاب الذي وضعه، بعد أن عدا الستين، ولكننا نلقاها في غير كتاب من كتبه، وبعضها يغور في الزمن إلى عهد الشباب والاكتمال، فهذا الباحث الذي أُتيح له في شبابه المبكر درس أثر كتاب الشعر لأرسطو في البلاغة العربية، يرى أن حرفته التي يقتات منها هي التدريس في الجامعة، أما نقد الأدب فيحب أن يكون فيه "ناقدا هاويا"، وتراه يتلطّف إلى قارئه في كتابه ذي العنوان المتواضع "تجارب في النقد"، ويسأله ألا ينتظر منه كلاما عليه مسوح من النظرية، ولا أن يسوق إليه ألطافا من المصطلحات، فذلك كله مرجو من النقاد "المحترفين"، أما عياد، فأستاذ جامعي، مهمته تدريس الطلاب، حتى إذا ظفر بفضل وقت جعل يكتب في نقد الأدب، نقد هواية لا احتراف.
حينها كان عياد في عهد الشباب، فلما أصبح من شيوخ النقد، ذرت في سماء الثقافة العربية شمس المناهج النقدية الغربية الحديثة، حتى إذا ألقى بصره رأى في القاهرة، غير بعيد منه، صخبا وضجيجا واحتفالا، فلما تقصى الخبر، عرف أن النقاد المصريين الشبان، ومنهم التلميذ والمريد، جعلوا يقيمون الأفراح والليالي الملاح بإطلالة "البنيوية"، ويخيل إلي أنه ما لبث أن ابتسم وأشفق على تلاميذه، فلم يخض في "البنيوية" مع الخائضين، ولم يتقها، وكان أدناهم إلى القصد، وما هي حتى انقطع إليها، مدة يسيرة، باحثا ومفتشا، حتى إذا أصدر "المحتفلون" عددا جديدا من مجلة "فصول"، وكانت ترفل في زينتها وتزهو بشبابها، وما منهم إلا من يلهج بهذا الوافد الجديد، تراهم مسرعين، مخافة أن يسبقوا إلى القول في أصل من أصوله، أو فرع من فروعه حتى كان ذلك، أنشأ مقالته الهادئة الساخرة العميقة "موقف من البنيوية"، وكان موقفه منها موقف العارف، وعسى أن تكون هي المقالة الهادئة في بحر من الضجيج، فلما ألقى عصاه في الرياض، مرة أخرى، لم يشأ لطلابه أن تخلبهم تلك "الصرعات"، ولم يرد لهم أن يتقوها، فألقى إليهم بدروسه، وعساه كان يردد كلمة شيخه أمين الخولي "إن أول التجديد هو قتل القديم بحثًا وفهمًا ودراسةً".