في الذكرى الخامسة والعشرين لوفاة موسيقار الأجيال

تفاعل
تفاعل

السبت - 28 مايو 2016

Sat - 28 May 2016

عبقري عصره ودهور بعده. ألبس الغناء العربي البدلة والكرافتة وأصبح الغناء شيئا معتبرا ومحترما بعدما كان للسوقة والعاطلين. نقله نقلة كبرى تمثلت في أنه أجبر الملوك والأمراء أن يتخذوه مطربا وجليسا ومصدر فخر لهم بل وسفيرا لهم إلى كافة طبقات المجتمع.

إنه محمد عبدالوهاب أبو عيسى المولود في باب الشعرية في مارس عام 1902 الذي غادر دنياه في الرابع من مايو عام 1991 ملأ فيها الدنيا وشغل الناس كما شغلها قبله ملهمه وأبوه الروحي أمير الشعراء أحمد شوقي الذي التزمه التزام الزر للقميص منذ منتصف عشرينيات القرن الماضي وحتى توفي عام 1932، والذي أعطاه الكثير من العلم والذوق والأدب والتهذيب، والأهم أنه أوصله لعلية القوم من أدباء وشعراء ومثقفين ورجال الأعمال والسياسة، مما كان له الأثر الأكبر في صقل موهبته وشخصيته الفنية المتفردة.

منذ رحل سيد المطربين العرب وأثره في موسيقانا باق كبقاء الوادي بعد المطر، ليس من المناسب هنا ذكر بداياته الفنية التي يعرفها معظم الناس، لكني سأرثي حال الأغنية العربية بعد رحيل عرابها وواضع أسس تطويرها الحديث بعد بذور التطوير التي أحدثها أول أساتذته موسيقار الشعب سيد درويش عظيم الأثر قصير العمر.

من «منك يا هاجر دائي» بدأ عبدالوهاب رحلته التلحينية وبها ختم، وكأنه يقول ضمنيا (لتعرفوا ماذا حصل بالقصيدة والأغنية العربية عموما استمعوا للحنين لتفهموا كيف نقلت الأغنية من غناء قديم جامد معتمد على الارتجال والتأثيرات التركية إلى غناء مهذب مبني على قواعد علمية وأداء راق غير متكلف ومعبر) وبينهما مئات الروائع الخالدات التي أضحت عنوانا لموسيقانا ومظهرا حضاريا يحق لنا الفخر به أمام الأمم.

مشروع عبدالوهاب التطويري للأغنية لم يكن في مجال الارتقاء فقط بذائقة المستمع وتطوير جسد الأغنية ولا في طريقة الأداء والعزف، بل امتد إلى محاولة تثقيفه وتدريب أذنه على الغناء السليم الخالي من النشاز (وهو أحد صوتين عربيين لم يعرفا النشاز في تاريخهما الغنائي قط)، وقاد هذا إلى رفض الجمهور الطبيعي لأي مطرب ليس مجيدا، أيضا فقد امتد أثره على المطربين اللاحقين له والذين أتوا بعده فلم يستطيعوا الفكاك من قوة الجذب الوهابية حتى منتصف السبعينيات بل وأصبح مقياس المطرب الجيد ومعياره هو مدى جودته في تقليد أداء الأستاذ.

سمح عمره الفني الطويل وولادته في أوائل القرن الماضي له بأن يكون مطلعا وبشكل مباشر على كل إنتاج عصر النهضة في القرن التاسع عشر (وفي مقدمتهم عبده الحامولي ومحمد عثمان – الذي بالمناسبة لم يستمع إليهما مباشرة لأنهما ماتا قبل ولادته ولكن تراثهما الموسيقي كان مغنى على مستوى واسع عن طريق المطربين الذين سمعوه مباشرة منهما) وعلى مطربي الربع الأول من القرن العشرين (سلامة حجازي ويوسف المنيلاوي وأبو العلا محمد والسيد درويش وغيرهم)، وهذا الاطلاع ساهم بلا شك - إضافة إلى موهبته الفريدة وذكائه النادر- في تقويم مسار الأغنية العربية وتجديد روحها بشكل سلس وجذاب .

يصعب حصر إسهامات عبدالوهاب في الموسيقى العربية وإضافته للأصوات المجايلة أو اللاحقة له، لكن في هذه العجالة نستطيع القول بأن موسيقار الأجيال قد وهبن (أي ألبسه بدلته) كل صوت لحن له وضمه لفلكه ومحيطه .

أخيرا، كان مجلسه معهدا للموسيقى وقبلها للذوق والإتيكيت والأدب والحضارة، كانت مصر تجلس كلها إليه وكان العالم العربي بأكمله ينحني احتراما له .

في عجالة أخرى سنتحدث إن شاء الله عن حياة ومراحل صوته والتطوير الموسيقي الذي أحدثه .

رحم الله عبدالوهاب ورحم الله زمانا أطلعه.