القيم.. بدونها لا قيامة لنا ولا نهوض
السوق
السوق
الأحد - 22 مايو 2016
Sun - 22 May 2016
قارئي العزيز، بعون الله أواصل معك في هذه المقالة ما سبق وأن تحدثت فيه في المقالة السابقة..
وكنت أتحدث عن القيم في السوق، والتي أصدرتها في كتاب ذي خمسة وعشرين فصلا.. وراقَ لي أن أبدأ معك من الفصل الأخير، وكان عن قيمة ترك الحسد والحقد، وذكرت أنه من المستحسن أنك كلما رأيت نعمةً أنعمها الله عليك أو أُعجبت بأبنائك، لا بد أن تقول «ما شاء الله لا قوة إلا بالله»، وهناك قصص كثيرة يقال إنها حقيقية، ولسوف أروي لكم بعضا من هذه القصص، بعضها سمعت بها، وبعضها عشتها، وبعضها أعرف أصحابها. وقد روي عن أحد مشايخ القبائل أنه كان جالسا في مجلسه ودخل عليه أحد أبنائه، ولم يقل ما شاء الله، بل قال: ما أحلاه! فوقع الولد مريضا ثم ما لبث أن توفاه الله.
ومع الأسف فإن التحاسد والتباغض بين رجال الأعمال وفي مجتمعاتهم قد يكون أكثر من مجتمعات أخرى. فقد يُنعم الله عليك بشيء فتُحسَد عليه، ولا تُغبط، وأقول: إن اجتناب هذا يأتي بالتربية والنفوس الصافية، والتعود على قول ما شاء الله، وتمني الخير للآخرين. وأذكر حادثة وقعت لي، فقد كُسِرَت رجلي وبقيت مدة على كرسي متحرك، وكنت أذهب إلى مؤتمرات ونحوها، فشفيت بإذن الله وبفضله، وبعدها ذهبت لزيارة شخصية كبيرة أحبها وتحبني، ولكن عندما دخلت عليه وأنا أمشي على قدمي – وكان قد شاهدني أربع أو خمس مرات على الكرسي المتحرك – لم يقل ما شاء الله، بل قال: لا عربية ولا عصاية؟! فلم ألقِ بالا للموضوع، وبعدما خرجت من عنده بيومين وقعت وانكسرت رجلي الثانية، وتصادف أن عدت إليه بعد شهر على كرسي متحرك، ولما دخلت فوجئ وقال: عربية؟! فقلت له: لأنني عندما دخلت عليك في المرة الماضية تعجّبت ولم تذكر الله فانكسرت رجلي، وجلست على العربية خمسة أشهر.
وقصة أخرى رواها لي والدي عليه رحمة الله، قائلا:
كان عند الملك فيصل - رحمه الله تعالى – رجل مشهور بالحسد، ووالدي كان يعمل عند الملك فيصل، وكانوا يتعشون مع الملك. ويقول والدي: كنت يومها لم أتغد، وطلبوني على العشاء، فذهبت وبدأت آكل وأشرب الشوربة بسرعة، وأنا جائع، والذي يحسد موجود، ولاحظ الملك فيصل الرجل الحاسد وهو يحدّق فيَّ بشراهة، فقال له الملك: بالملعقة يا فلان بالملعقة، فانكسرت الملعقة بيدي ووقع جزء منها في الصحن.
وهكذا عزيزي القارئ، فهناك أناس لديهم قوة في الحسد، ولا نؤمن بالخرافات التي تقول إن اللون الأزرق يقطع الحسد، ويفسرون ذلك بأن الحسد تيار كهربائي أو ذبذبة، أو يقال لأحدهم «امسك الخشب»، وكلها عادات لا صحة لها. والذي يمنع الحسد بإذن الله تعالى هو التحصّن والاستعاذة بالله تعالى، وأن يُرقي الإنسان نفسه، وعلى الحاسد أن يتعود أن يقول «ما شاء الله لا قوة إلا بالله» إذا رأى شيئا أعجبه. لكن لا شك أنه مرض، ومرض يفتك بالمجتمعات، ومثل هذه الأمراض عندما تنتشر فهذا دليل على عدم الرضا وعدم القناعة. وهناك أمثال في هذا، قيل: (يحسدون الفقير على موتة الجمعة)، (يحسدوا الأعمى على كبر عينه).
ولهذا فإن الرضا هو الأساس، فكما قلنا إن الحسد نتيجة للكبرياء وللبغضاء وعدم القناعة، والقناعة ليس معناها عدم الطموح، لكن كونك لا ترضى بالحياة التي تعيشها فأنت حسود. وهناك بعض الروايات في السنة النبوية: أن أحد الصحابة كان يتوضأ فمر به أحدهم وقال: ما أبيض لونه، ولم يذكر الله تعالى فأصيب هذا الرجل. فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بإحضار الماء الذي توضأ به الحاسد وأن يصبّوه على من أصيب بالعين، فشفاه الله تعالى. وهذه الحادثة تثبت أن بقايا الوضوء تُذهب العين.
ولكن قد يحصل بعض الخلط في مسألة الحسد، فأحيانا بعضهم يصيبه الوسواس، بمعنى أنه كلما أصابه شيء قال: أنا محسود، إذا قلت له: لماذا لا تعمل؟ قال أنا محسود، وهكذا أصبح الحسد حجة بعض الناس، كشمّاعة كلما تقاعس عن تحقيق أي هدف في حياته.
وبخصوص موضوع الشماعة، لدي حكاية عن هذه النقطة: كنت أحب السمك جدا، وأحيانا أو غالبا أتغدى في المكتب، وكنت أطلب السمك في المكتب. وكانت رائحة السمك تملأ البرج، والكل يعلم أنني آكل سمكا، ومضت علي سنوات بعدها لا أطيق أكل سمكة واحدة. وليس لدي لذلك أي تفسير، إلا أن مئات الموظفين في البرج يعرفون أنني أحب السمك، وقد يكون السبب أنني لم أكن أطعمهم منه. وقد قيل: إذا أردت أن تتقي شر الحاسد أطعمه معك. وأعتقد أنني لو كنت فعلت هذا لحوّلت البرج إلى سوق سمك، لذا أقلعت عن السمك.
وبعد نهاية الكلام في الفصل الخامس والعشرين من كتابي «القيم في السوق».. أعود معكم إلى فصله الأول، «لماذا اخترت القيم»، خصوصا أننا قرأنا ودرسنا كثيرا في فقه المعاملات وفقه الأخلاق والسلوك، ولكن هل أخلاقيات المسلمين اليوم ومعاملاتهم تعكس صورة الإسلام الحقيقية؟ إننا نعيش اليوم في أزمة، هي أزمة القيم، ونحن بحاجة إلى صحوة ونهضة في عالم القيم. فنحن بحاجة إلى الرجل الأمين، وإلى الموظف المخلص، وإلى الأب العادل، وإلى المرأة الصادقة القوية، وما زلنا اليوم نخشى غش التاجر، وخداع البائع، وعدم الوفاء بالكلمة.
القيم والأخلاق والسلوكيات في اللغة:
هناك ثلاثة ألفاظ تكاد تعطي نفس المعنى، ففي المعجم: (الخلق): حالة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال من خير أو شر من غير حاجة إلى فكر وروية، والجمع أخلاق، وعلم (الأخلاق) علم موضوعه: أحكام قيمية، تتعلق بالأعمال التي تُوصف بالحُسن أو القُبح، و(الأخلاقي) هو ما يتفق وقواعد الأخلاق أو قواعد السلوك المقررة في المجتمع، وعكسه لا أخلاقي.
والسلوك، سيرة الإنسان ومذهبه واتجاهه، يقال: فلان حسن السلوك أو سيئ السلوك. وفي علم النفس: السلوك هو الاستجابة الكلية التي يبديها كائن حي إزاء موقف يواجهه.
والقيمة: هي قيمة الشيء قَدرُهُ، وقيمة المتاع ثَمَنُهُ. واللغة العربية ثرية، فتجد لكل كلمة فيها قصدا أو استخداما في حالة معينة، وهى في الواقع صفات نفسية يكتسبها الشخص ويتصرف بموجبها، وقد تكون خلقا حسنا أو سيئا، وقد تكون قيمة إيجابية أو سلبية، وقد يكون سلوكا جيدا أو خطأ.
إن مشكلة القيم ليست مشكلة مجتمع الحكام وحده في الأمة الإسلامية، بل هي مشكلة مجتمع الحكام ومجتمع السياسيين ومشكلة الطلبة والرجال والنساء.
وعندما ذهب المفكر الشيخ محمد عبده إلى الغرب، وقال كلمته المشهورة: «وجدت في أوروبا مسلمين بلا إسلام، ووجدت في بلادي إسلاما بلا مسلمين». فأعتقد أن هذا قول فيه تجنٍ لأن الأخلاق ليست حكرا على المسلمين فقط، وإنما الأخلاق موجودة في كل الديانات. والآن الدول الإسلامية هي أكثر دول العالم في عدم تمسكها بالقيم الأخلاقية، وأصبحت أقل الأمم في هذا المجال. وهناك إحصاءات عالمية تذكر أن الدول الأكثر فسادا في العالم عشرٌ منها دول إسلامية، وأكثر دول العالم فقرا دول إسلامية، وأكثر دول العالم جهلا دول إسلامية. لقد نسينا الأخلاق، وحتى عندما ننادي بالأخلاق، نريد من الآخرين أن يطبقوها، لكننا لا نسير على معاييرها. لهذا فإن مشكلة القيم لا تقتصر على مجتمع الأعمال، وإنما هي مشكلة كل فئات المجتمعات الإسلامية.
والحقيقة قارئي العزيز: لقد جرّبت مجتمعاتنا الإسلامية كل شيء من أجل أن تكون شيئا مذكورا، جرّبت الأنظمة والقوانين، وسنّتها متعاقبة في أعقاب كل مناداة بالإصلاح، وحاولت كسر الجمود على مدار عشرات العقود، وعقدت المؤتمرات والندوات على كل المستويات، وأنشأت الهيئات الرقابية والمنظمات الاجتماعية، من أجل التغيير والشفافية، بحثا عن الفلاح.
وأعرف وتعرفون أيها الأعزاء، أن الصدق والإخلاص والوفاء والالتزام قيم يصعب تطبيقها بمجرد صدور بيانات وقرارات، ومن الصعب أيضا مراقبتها في ظل غياب القيم ولو أنفقنا في سبيل ذلك المليارات، مع أنه بدونها لا قيامة لنا ولا نهوض.
ولهذا وانطلاقا من الآية الكريمة: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ..)، سأحاول بعون الله، بدء هذه السلسلة من المقالات عن القيم – إحياء وتطبيقا – مرورا بفصول كتابي «القيم في السوق»، وعبر مقالتي الأسبوعية في صحيفة مكة «السوق». وحقا ما الحياة إلا سوق كبير نحن فيه الباعة والمشترون، ومنا الموردون والمستوردون، ومنّا معا تتشكل المجتمعات، ولذا علينا أن نعرف «كيف نُفعّل القيم» وهذا موضوع الفصل الثاني، إذا كتب الله لنا بفضله لقاء، وهذا ما نرجوه من الله في هذه الليلة المباركة أعادها الله على الأمة كلها وحالها أفضل وواقعها أجمل إن شاء الله.
وكنت أتحدث عن القيم في السوق، والتي أصدرتها في كتاب ذي خمسة وعشرين فصلا.. وراقَ لي أن أبدأ معك من الفصل الأخير، وكان عن قيمة ترك الحسد والحقد، وذكرت أنه من المستحسن أنك كلما رأيت نعمةً أنعمها الله عليك أو أُعجبت بأبنائك، لا بد أن تقول «ما شاء الله لا قوة إلا بالله»، وهناك قصص كثيرة يقال إنها حقيقية، ولسوف أروي لكم بعضا من هذه القصص، بعضها سمعت بها، وبعضها عشتها، وبعضها أعرف أصحابها. وقد روي عن أحد مشايخ القبائل أنه كان جالسا في مجلسه ودخل عليه أحد أبنائه، ولم يقل ما شاء الله، بل قال: ما أحلاه! فوقع الولد مريضا ثم ما لبث أن توفاه الله.
ومع الأسف فإن التحاسد والتباغض بين رجال الأعمال وفي مجتمعاتهم قد يكون أكثر من مجتمعات أخرى. فقد يُنعم الله عليك بشيء فتُحسَد عليه، ولا تُغبط، وأقول: إن اجتناب هذا يأتي بالتربية والنفوس الصافية، والتعود على قول ما شاء الله، وتمني الخير للآخرين. وأذكر حادثة وقعت لي، فقد كُسِرَت رجلي وبقيت مدة على كرسي متحرك، وكنت أذهب إلى مؤتمرات ونحوها، فشفيت بإذن الله وبفضله، وبعدها ذهبت لزيارة شخصية كبيرة أحبها وتحبني، ولكن عندما دخلت عليه وأنا أمشي على قدمي – وكان قد شاهدني أربع أو خمس مرات على الكرسي المتحرك – لم يقل ما شاء الله، بل قال: لا عربية ولا عصاية؟! فلم ألقِ بالا للموضوع، وبعدما خرجت من عنده بيومين وقعت وانكسرت رجلي الثانية، وتصادف أن عدت إليه بعد شهر على كرسي متحرك، ولما دخلت فوجئ وقال: عربية؟! فقلت له: لأنني عندما دخلت عليك في المرة الماضية تعجّبت ولم تذكر الله فانكسرت رجلي، وجلست على العربية خمسة أشهر.
وقصة أخرى رواها لي والدي عليه رحمة الله، قائلا:
كان عند الملك فيصل - رحمه الله تعالى – رجل مشهور بالحسد، ووالدي كان يعمل عند الملك فيصل، وكانوا يتعشون مع الملك. ويقول والدي: كنت يومها لم أتغد، وطلبوني على العشاء، فذهبت وبدأت آكل وأشرب الشوربة بسرعة، وأنا جائع، والذي يحسد موجود، ولاحظ الملك فيصل الرجل الحاسد وهو يحدّق فيَّ بشراهة، فقال له الملك: بالملعقة يا فلان بالملعقة، فانكسرت الملعقة بيدي ووقع جزء منها في الصحن.
وهكذا عزيزي القارئ، فهناك أناس لديهم قوة في الحسد، ولا نؤمن بالخرافات التي تقول إن اللون الأزرق يقطع الحسد، ويفسرون ذلك بأن الحسد تيار كهربائي أو ذبذبة، أو يقال لأحدهم «امسك الخشب»، وكلها عادات لا صحة لها. والذي يمنع الحسد بإذن الله تعالى هو التحصّن والاستعاذة بالله تعالى، وأن يُرقي الإنسان نفسه، وعلى الحاسد أن يتعود أن يقول «ما شاء الله لا قوة إلا بالله» إذا رأى شيئا أعجبه. لكن لا شك أنه مرض، ومرض يفتك بالمجتمعات، ومثل هذه الأمراض عندما تنتشر فهذا دليل على عدم الرضا وعدم القناعة. وهناك أمثال في هذا، قيل: (يحسدون الفقير على موتة الجمعة)، (يحسدوا الأعمى على كبر عينه).
ولهذا فإن الرضا هو الأساس، فكما قلنا إن الحسد نتيجة للكبرياء وللبغضاء وعدم القناعة، والقناعة ليس معناها عدم الطموح، لكن كونك لا ترضى بالحياة التي تعيشها فأنت حسود. وهناك بعض الروايات في السنة النبوية: أن أحد الصحابة كان يتوضأ فمر به أحدهم وقال: ما أبيض لونه، ولم يذكر الله تعالى فأصيب هذا الرجل. فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بإحضار الماء الذي توضأ به الحاسد وأن يصبّوه على من أصيب بالعين، فشفاه الله تعالى. وهذه الحادثة تثبت أن بقايا الوضوء تُذهب العين.
ولكن قد يحصل بعض الخلط في مسألة الحسد، فأحيانا بعضهم يصيبه الوسواس، بمعنى أنه كلما أصابه شيء قال: أنا محسود، إذا قلت له: لماذا لا تعمل؟ قال أنا محسود، وهكذا أصبح الحسد حجة بعض الناس، كشمّاعة كلما تقاعس عن تحقيق أي هدف في حياته.
وبخصوص موضوع الشماعة، لدي حكاية عن هذه النقطة: كنت أحب السمك جدا، وأحيانا أو غالبا أتغدى في المكتب، وكنت أطلب السمك في المكتب. وكانت رائحة السمك تملأ البرج، والكل يعلم أنني آكل سمكا، ومضت علي سنوات بعدها لا أطيق أكل سمكة واحدة. وليس لدي لذلك أي تفسير، إلا أن مئات الموظفين في البرج يعرفون أنني أحب السمك، وقد يكون السبب أنني لم أكن أطعمهم منه. وقد قيل: إذا أردت أن تتقي شر الحاسد أطعمه معك. وأعتقد أنني لو كنت فعلت هذا لحوّلت البرج إلى سوق سمك، لذا أقلعت عن السمك.
وبعد نهاية الكلام في الفصل الخامس والعشرين من كتابي «القيم في السوق».. أعود معكم إلى فصله الأول، «لماذا اخترت القيم»، خصوصا أننا قرأنا ودرسنا كثيرا في فقه المعاملات وفقه الأخلاق والسلوك، ولكن هل أخلاقيات المسلمين اليوم ومعاملاتهم تعكس صورة الإسلام الحقيقية؟ إننا نعيش اليوم في أزمة، هي أزمة القيم، ونحن بحاجة إلى صحوة ونهضة في عالم القيم. فنحن بحاجة إلى الرجل الأمين، وإلى الموظف المخلص، وإلى الأب العادل، وإلى المرأة الصادقة القوية، وما زلنا اليوم نخشى غش التاجر، وخداع البائع، وعدم الوفاء بالكلمة.
القيم والأخلاق والسلوكيات في اللغة:
هناك ثلاثة ألفاظ تكاد تعطي نفس المعنى، ففي المعجم: (الخلق): حالة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال من خير أو شر من غير حاجة إلى فكر وروية، والجمع أخلاق، وعلم (الأخلاق) علم موضوعه: أحكام قيمية، تتعلق بالأعمال التي تُوصف بالحُسن أو القُبح، و(الأخلاقي) هو ما يتفق وقواعد الأخلاق أو قواعد السلوك المقررة في المجتمع، وعكسه لا أخلاقي.
والسلوك، سيرة الإنسان ومذهبه واتجاهه، يقال: فلان حسن السلوك أو سيئ السلوك. وفي علم النفس: السلوك هو الاستجابة الكلية التي يبديها كائن حي إزاء موقف يواجهه.
والقيمة: هي قيمة الشيء قَدرُهُ، وقيمة المتاع ثَمَنُهُ. واللغة العربية ثرية، فتجد لكل كلمة فيها قصدا أو استخداما في حالة معينة، وهى في الواقع صفات نفسية يكتسبها الشخص ويتصرف بموجبها، وقد تكون خلقا حسنا أو سيئا، وقد تكون قيمة إيجابية أو سلبية، وقد يكون سلوكا جيدا أو خطأ.
إن مشكلة القيم ليست مشكلة مجتمع الحكام وحده في الأمة الإسلامية، بل هي مشكلة مجتمع الحكام ومجتمع السياسيين ومشكلة الطلبة والرجال والنساء.
وعندما ذهب المفكر الشيخ محمد عبده إلى الغرب، وقال كلمته المشهورة: «وجدت في أوروبا مسلمين بلا إسلام، ووجدت في بلادي إسلاما بلا مسلمين». فأعتقد أن هذا قول فيه تجنٍ لأن الأخلاق ليست حكرا على المسلمين فقط، وإنما الأخلاق موجودة في كل الديانات. والآن الدول الإسلامية هي أكثر دول العالم في عدم تمسكها بالقيم الأخلاقية، وأصبحت أقل الأمم في هذا المجال. وهناك إحصاءات عالمية تذكر أن الدول الأكثر فسادا في العالم عشرٌ منها دول إسلامية، وأكثر دول العالم فقرا دول إسلامية، وأكثر دول العالم جهلا دول إسلامية. لقد نسينا الأخلاق، وحتى عندما ننادي بالأخلاق، نريد من الآخرين أن يطبقوها، لكننا لا نسير على معاييرها. لهذا فإن مشكلة القيم لا تقتصر على مجتمع الأعمال، وإنما هي مشكلة كل فئات المجتمعات الإسلامية.
والحقيقة قارئي العزيز: لقد جرّبت مجتمعاتنا الإسلامية كل شيء من أجل أن تكون شيئا مذكورا، جرّبت الأنظمة والقوانين، وسنّتها متعاقبة في أعقاب كل مناداة بالإصلاح، وحاولت كسر الجمود على مدار عشرات العقود، وعقدت المؤتمرات والندوات على كل المستويات، وأنشأت الهيئات الرقابية والمنظمات الاجتماعية، من أجل التغيير والشفافية، بحثا عن الفلاح.
وأعرف وتعرفون أيها الأعزاء، أن الصدق والإخلاص والوفاء والالتزام قيم يصعب تطبيقها بمجرد صدور بيانات وقرارات، ومن الصعب أيضا مراقبتها في ظل غياب القيم ولو أنفقنا في سبيل ذلك المليارات، مع أنه بدونها لا قيامة لنا ولا نهوض.
ولهذا وانطلاقا من الآية الكريمة: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ..)، سأحاول بعون الله، بدء هذه السلسلة من المقالات عن القيم – إحياء وتطبيقا – مرورا بفصول كتابي «القيم في السوق»، وعبر مقالتي الأسبوعية في صحيفة مكة «السوق». وحقا ما الحياة إلا سوق كبير نحن فيه الباعة والمشترون، ومنا الموردون والمستوردون، ومنّا معا تتشكل المجتمعات، ولذا علينا أن نعرف «كيف نُفعّل القيم» وهذا موضوع الفصل الثاني، إذا كتب الله لنا بفضله لقاء، وهذا ما نرجوه من الله في هذه الليلة المباركة أعادها الله على الأمة كلها وحالها أفضل وواقعها أجمل إن شاء الله.