مشكلات في محاسبة المحرضين
السبت - 21 مايو 2016
Sat - 21 May 2016
ليست قضية التحريض والتغرير بالشباب والمراهقين قصة حديثة، ومن مخرجات مواقع التواصل في السنوات الأخيرة في مجتمعنا. لقد ارتبطت بأزمة كل تطورات الحالة الجهادية المعاصرة منذ الثمانينات. عرضت قناة العربية برنامجا وثائقيا عن هذه القضية، وكان يمكن أن يقدم بشكل أوسع، لو تم استضافة رؤى متنوعة، فقد كانت المادة أقل من خطورة القضية، وحساسياتها وأهميتها للوطن وأبنائه.
يجب أن لا تشغلنا المهاترات اليومية عن عمق المشكلة وعدم قدرتنا على وضع محددات دقيقة، يمكن فيها القبض على المتلبس بالخطأ ومحاسبته، فليس دائما المسافة بين الخطاب المعتدل والمتطرف شديدة الوضوح، خاصة عندما تأتي لحظات يتماهى أكثر من خطاب بالنغمة نفسها ولكل طرف مصلحته، وهو ما حدث في أكثر من مرحلة. هناك تراكمات معقدة للتمييز بين التعبير عن الرأي والتعاطف أو الانخراط في خطاب تجنيدي للآخرين، ونقلهم لقلب المعارك والصراعات.
التحريض في حقيقته ليس مجرد مقاطع تلتقط من هنا وهنا، أو تغريدات.. وإنما سيرة لخطاب هذه الشخصية أو تلك، وهل مجمل خطابه يورط الشباب في هذا المسار أم لا، هذه الطريقة أكثر عدلا، وإلا خرجت القضية النبيلة عن هدفها في إحياء مسؤولية الكلمة.
يمكن عرض إشكالية التحريض على عدة مستويات: أما التحريض المباشر والدعوة للنفير.. والتجنيد فهذه ليست قضية مطروحة اليوم ، فمنذ التسعينات يتم محاسبة هذه النوع من الخطاب مباشرة من الجهات الرسمية خاصة بعد تفجير العليا 1994م، وفيها تفاصيل كثيرة، ما بين الإيقاف عن الخطابة أو السجن. لكن المشكلة تأتي في الدرجة الثانية والثالثة وهي التي يتداخل فيها جوانب كثيرة تحتاج عرض في مقالات أخرى.
تأتي مشكلة مخلفات ما قبل ذلك التاريخ منذ الثمانينات، حيث صدرت مواد كثيرة جعلت الانتقال لأرض الجهاد من فضائل الأعمال في مخيلة أبناء تلك المرحلة وفي مخيلة المجتمع الذي يبجل هذا العمل. وشارك بدرجات متفاوتة جهات وشخصيات كثيرة وأغلب نخب تلك المرحلة وشاركت بذلك الصحافة المحلية. هناك أيضا مخلفات بعد لخبطة سبتمبر حدثت مراجعات، لكنها انتكست سريعا مع 2004 وحكاية المقاومة العراقية والتأييد لها، وهذا أيضا اشتركت فيه أطراف كثيرة قبل أن تزداد الظاهرة إلى مرحلة الثورة السورية وهي ليست لحظة واحدة، فالتعامل الإعلامي معها مختلف في كل عام منذ 2012 إلى الآن!
وقبل الحديث عن أي محاسبة قانونية هناك جانب أخلاقي يجب أن يتم إيقاظه خاصة ممن امتلك يوما ما خطابا مؤثرا، وإن كان على مجرد دائرة صغيرة ممن يعرفهم، ولو صف دراسي صغير، أو من شارك في توزيع خطاب حماسي. كيف نوقظ تأنيب الضمير والمحاسبة الذاتية عند كل من شارك بتوريط الآخرين بهذه المسارات يوما ما، عندما شاهد بعد سنوات أن هناك من أخذ خطابه إلى مرحلته النهائية، وسبب لهم حالة ارتباك وانفصام بالشخصية، وتقلبات في أكثر من مسار يعاني مجتمعنا اليوم منه.
من واقع سجالات قديمة شخصية في أكثر من مرحلة يبدو من الصعب تغيير بنية هذا الخطاب الذي يفتقد الإحساس بانفصال خطابه الوعظي والحماسي القادم من خارج شروط المرحلة، حيث ينشط في تهيج المشاعر حول أزمة ما، دون الوعي بحدود ما يمكن عمله وجدواه، وإلى أي حد يكون رفع مستوى تأنيب الضمير للجمهور مقبولا، وأن لا يكون مفهوم إبراء الذمة لدى المتكلم، هو مجرد الحشد الذهني بدون مقومات واقعية حول كل قضايانا من فلسطين إلى غيرها. في كل مرة نتوقع أن يصحو هذا الوعي إلا أنه يصاب بانتكاسة لمجرد وجود أزمة سياسية هنا أو صراع هناك، حيث ترتخي فيها الرقابة السياسية في المنطقة أو يشارك فيها الإعلام بنغمة معينة.. فتباشر هذه الشخصيات بالانخراط فيها كفرصة جديدة، ثم تنحسر الموجة وتبدأ محاسبات أنت قلت وهذا قال.. وهذا غرد بكذا، عبر محاسبات انتقائية، وفرصة لابتكار وتنشيط خصومات إلهائية بدون جدوى.
محاسبة المحرضين قضية تدخل في عمق أزمة الوعي بمسؤولية الخطاب الذاتية والأخلاقية في المجتمع، وهو ما يجب أن يكون حاضرا لدى أي شخص عادي فكيف ممن يتصدر بتقديم خطاب في الشأن العام. كثير من الناس لا يجهلون المسؤولية القانونية فيما يخص الجهات الرسمية، وهم يعرفون مساحة الحرية في كل جانب سياسي أو اجتماعي أو ديني، لكن فيما يتعلق بمسؤولية الكلمة تجاه الأفراد والمجتمع فإنه يحدث لبس كبير وتداخل، فليس دائما يمكن وصف هذا الكلام بأنه تحريض أم لا.. وعندما يشتغل القياس هنا، ستحدث سلسلة غير منتهية من الإدانات التاريخية لشخصيات وجهات كثيرة.
هناك من ألف وكتب ونشر ثم غير رأيه بالكامل؟ هل هناك فرق بين تحريض كل مرحلة ومسؤوليتها القانونية، هل التوبة من التطرف تسقط المسؤولية القانونية بحيث تسقط مع التقادم، ومن السهل نفض الأرشيف لأسماء عديدة. كيف نميز بين رأي الشخص بأحداث ساخنة ما على منبر أو في مقالة أو تغريدة ضد ممارسات العدو الصهيوني أو الغرب الصامت ضد ممارسات نظام الأسد أو حتى رأيه ضد سياسات أمريكا كما يحدث هذه الأيام مع مواقفها وعدم اعتباره تحريضا. أسئلة كثيرة يمكن الإجابة عنها بمقال آخر.
[email protected]
يجب أن لا تشغلنا المهاترات اليومية عن عمق المشكلة وعدم قدرتنا على وضع محددات دقيقة، يمكن فيها القبض على المتلبس بالخطأ ومحاسبته، فليس دائما المسافة بين الخطاب المعتدل والمتطرف شديدة الوضوح، خاصة عندما تأتي لحظات يتماهى أكثر من خطاب بالنغمة نفسها ولكل طرف مصلحته، وهو ما حدث في أكثر من مرحلة. هناك تراكمات معقدة للتمييز بين التعبير عن الرأي والتعاطف أو الانخراط في خطاب تجنيدي للآخرين، ونقلهم لقلب المعارك والصراعات.
التحريض في حقيقته ليس مجرد مقاطع تلتقط من هنا وهنا، أو تغريدات.. وإنما سيرة لخطاب هذه الشخصية أو تلك، وهل مجمل خطابه يورط الشباب في هذا المسار أم لا، هذه الطريقة أكثر عدلا، وإلا خرجت القضية النبيلة عن هدفها في إحياء مسؤولية الكلمة.
يمكن عرض إشكالية التحريض على عدة مستويات: أما التحريض المباشر والدعوة للنفير.. والتجنيد فهذه ليست قضية مطروحة اليوم ، فمنذ التسعينات يتم محاسبة هذه النوع من الخطاب مباشرة من الجهات الرسمية خاصة بعد تفجير العليا 1994م، وفيها تفاصيل كثيرة، ما بين الإيقاف عن الخطابة أو السجن. لكن المشكلة تأتي في الدرجة الثانية والثالثة وهي التي يتداخل فيها جوانب كثيرة تحتاج عرض في مقالات أخرى.
تأتي مشكلة مخلفات ما قبل ذلك التاريخ منذ الثمانينات، حيث صدرت مواد كثيرة جعلت الانتقال لأرض الجهاد من فضائل الأعمال في مخيلة أبناء تلك المرحلة وفي مخيلة المجتمع الذي يبجل هذا العمل. وشارك بدرجات متفاوتة جهات وشخصيات كثيرة وأغلب نخب تلك المرحلة وشاركت بذلك الصحافة المحلية. هناك أيضا مخلفات بعد لخبطة سبتمبر حدثت مراجعات، لكنها انتكست سريعا مع 2004 وحكاية المقاومة العراقية والتأييد لها، وهذا أيضا اشتركت فيه أطراف كثيرة قبل أن تزداد الظاهرة إلى مرحلة الثورة السورية وهي ليست لحظة واحدة، فالتعامل الإعلامي معها مختلف في كل عام منذ 2012 إلى الآن!
وقبل الحديث عن أي محاسبة قانونية هناك جانب أخلاقي يجب أن يتم إيقاظه خاصة ممن امتلك يوما ما خطابا مؤثرا، وإن كان على مجرد دائرة صغيرة ممن يعرفهم، ولو صف دراسي صغير، أو من شارك في توزيع خطاب حماسي. كيف نوقظ تأنيب الضمير والمحاسبة الذاتية عند كل من شارك بتوريط الآخرين بهذه المسارات يوما ما، عندما شاهد بعد سنوات أن هناك من أخذ خطابه إلى مرحلته النهائية، وسبب لهم حالة ارتباك وانفصام بالشخصية، وتقلبات في أكثر من مسار يعاني مجتمعنا اليوم منه.
من واقع سجالات قديمة شخصية في أكثر من مرحلة يبدو من الصعب تغيير بنية هذا الخطاب الذي يفتقد الإحساس بانفصال خطابه الوعظي والحماسي القادم من خارج شروط المرحلة، حيث ينشط في تهيج المشاعر حول أزمة ما، دون الوعي بحدود ما يمكن عمله وجدواه، وإلى أي حد يكون رفع مستوى تأنيب الضمير للجمهور مقبولا، وأن لا يكون مفهوم إبراء الذمة لدى المتكلم، هو مجرد الحشد الذهني بدون مقومات واقعية حول كل قضايانا من فلسطين إلى غيرها. في كل مرة نتوقع أن يصحو هذا الوعي إلا أنه يصاب بانتكاسة لمجرد وجود أزمة سياسية هنا أو صراع هناك، حيث ترتخي فيها الرقابة السياسية في المنطقة أو يشارك فيها الإعلام بنغمة معينة.. فتباشر هذه الشخصيات بالانخراط فيها كفرصة جديدة، ثم تنحسر الموجة وتبدأ محاسبات أنت قلت وهذا قال.. وهذا غرد بكذا، عبر محاسبات انتقائية، وفرصة لابتكار وتنشيط خصومات إلهائية بدون جدوى.
محاسبة المحرضين قضية تدخل في عمق أزمة الوعي بمسؤولية الخطاب الذاتية والأخلاقية في المجتمع، وهو ما يجب أن يكون حاضرا لدى أي شخص عادي فكيف ممن يتصدر بتقديم خطاب في الشأن العام. كثير من الناس لا يجهلون المسؤولية القانونية فيما يخص الجهات الرسمية، وهم يعرفون مساحة الحرية في كل جانب سياسي أو اجتماعي أو ديني، لكن فيما يتعلق بمسؤولية الكلمة تجاه الأفراد والمجتمع فإنه يحدث لبس كبير وتداخل، فليس دائما يمكن وصف هذا الكلام بأنه تحريض أم لا.. وعندما يشتغل القياس هنا، ستحدث سلسلة غير منتهية من الإدانات التاريخية لشخصيات وجهات كثيرة.
هناك من ألف وكتب ونشر ثم غير رأيه بالكامل؟ هل هناك فرق بين تحريض كل مرحلة ومسؤوليتها القانونية، هل التوبة من التطرف تسقط المسؤولية القانونية بحيث تسقط مع التقادم، ومن السهل نفض الأرشيف لأسماء عديدة. كيف نميز بين رأي الشخص بأحداث ساخنة ما على منبر أو في مقالة أو تغريدة ضد ممارسات العدو الصهيوني أو الغرب الصامت ضد ممارسات نظام الأسد أو حتى رأيه ضد سياسات أمريكا كما يحدث هذه الأيام مع مواقفها وعدم اعتباره تحريضا. أسئلة كثيرة يمكن الإجابة عنها بمقال آخر.
[email protected]